q
تراكم الفشل أدى الى خلق المزيد من التحديات امام النظام السياسي ومؤسساته على اعتبار ان النظام القائم في العراق هو نظام مركزي وان كان بواجهة أقرب الى الديمقراطية، فالحقيقة ان اغلب مفاصل القطاعات الاقتصادية والاراضي والموارد الطبيعية والاستثمار والتعليم والصحة والخدمات وغيرها هي ملك للدولة حصراً او تدار...

عندما تصنف الدولة ضمن الدول "الفاشلة" على مستوى المجتمع الدولي، فإن ذلك يعني سنوات طويلة من تراكم الفشل وضياع الفرص، كما يعني ان تكون الدولة مرشحة لانهيار كامل لمنظومتها السياسية والاقتصادية والأمنية والخدمية وتداعياتها الخطيرة على الامن والسلم المجتمعي، وقد شهدنا العديد من الدول التي وصلت الى حافة الهاوية نتيجة لهذا الفشل، كما الحال في لبنان وأفغانستان وفنزويلا.

اما في بلاد الرافدين (العراق)، فالأمر يشابه ويخالف هذا التصنيف في ذات الوقت، يشابهه لان العراق ما زال يتأرجح بين خانة الدول الفاشلة والخروج منها، فهو قاب قوسين او أدنى من ذلك نتيجة لتراكم التجارب والاحداث الفاشلة التي قادته نحو القاع، والفشل لا ينحصر في الجانب السياسي فقط، بل هو فشل في إدارة الموارد العديدة المتاحة في مختلف القطاعات الفاعلة والحيوية في البلد، الفشل يشمل الاقتصاد والتعليم والخدمات والاستثمار والقطاع الخاص والحريات والقوانين والبيروقراطية في الإدارة والقائمة تطول.

بينما يختلف عن الآخرين (الدول الفاشلة) لان العراق كبلد له العديد من المقومات الجيوسياسية والاقتصادية ورأس المال البشري من الصعب ان ينهار بسهولة، لأنه ببساطة ارض الفرص التي لم تستغل لغاية وقتنا الحاضر، وهي فرص عظيمة لو قدر لها ان ترى النور، وتشق طريقها وسط هذا الكم الهائل من الإحباط والتراجع الذي انعكس سلباً على الواقع اليومي للمجتمع العراقي، خصوصاً على المستوى الاقتصادي.

ان تراكم الفشل أدى الى خلق المزيد من التحديات امام النظام السياسي ومؤسساته على اعتبار ان النظام القائم في العراق هو نظام مركزي وان كان بواجهة أقرب الى الديمقراطية، فالحقيقة ان اغلب مفاصل القطاعات الاقتصادية والاراضي والموارد الطبيعية والاستثمار والتعليم والصحة والخدمات وغيرها هي ملك للدولة حصراً او تدار بطريقة مركزية، وحتى القوانين النافذة تجعل من الصعوبة بمكان خلق او تطوير القطاع الخاص او المنافسة الى جانب القطاع العام المملوك للدولة ومؤسساتها، فقد كتبت بطريقة تجعل للدولة اليد العليا في إدارة كل شيء من دون فسح المجال امام القطاع الخاص لأثبات وجودة في سوق العمل الذي ينبغي ان ينافس فيه الجميع من دون تفضيل قطاع على حساب الآخر.

والغريب في الامر، ان القطاع العام، رغم كل الإمكانات المادية والامتيازات الممنوحة له، ما زال قطاع يعتمد على الاقتصاد الريعي، فهو قطاع خاسر في اغلب مفاصلة، باستثناء النفط الذي يصدر كسلعة خام تعتمد في أسعارها على العرض والطلب العالميين، وتدار عملية استخراج النفط من قبل شركات عالمية لها نسبة عالية من سعر برميل النفط الواحد، اما باقي القطاعات العامة فتعاني من التضخم في عدد الموظفين والاعتماد على السلف الممنوحة من الدولة في استمرار عملها، واندثار اغلب المعامل المنتجة ويد العمل الماهرة، ناهيك عن الفساد الإداري والتجاوز على المال العام والروتين وكلف الإنتاج العالية مقارنة بالمستورد التي حيدت هذا القطاع وجعلته خارج الخدمة فضلاً عن المنافسة مع السلع المستوردة.

قد يستغرب البعض حينما يرى ويطلع على حجم المشاكل وتراكمها في العراق، من حقيقة وجود فرض كبيرة للنهوض بواقع جديد مختلف كلياً عن الواقع الحالي في هذا البلد، لكن بلاد الرافدين تعتبر من البلدان الخصبة التي لم تستغل الا بنسب قليلة ربما لا تتجاوز 10% من مواردها، فعلى سبيل المثال:

1. ان الطاقة الإنتاجية الحالية للنفط الخام في العراق تبلغ (4.8) مليون برميل في أفضل ظروفها، وهي كمية قليلة إذا ما قارناها بالاحتياطي الضخم الذي يملكه العراق او كميات الإنتاج للدول المقاربة للعراق كالمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، وبالتالي يمكن ان يزيد الإنتاج الى الضعف او الضعفين.

2. الموارد الطبيعية الأخرى التي لم تستغل منذ عقود من الزمن، بل ويتم هدرها بلا ثمن، ويأتي في مقدمتها الغاز، الذي يعتبر من مصادر الطاقة النظيفة ومن السلع المطلوبة عالمياً، ويمتلك العراق احتياطي هائل منها، لكن سوء الإدارة والتخبط والقرارات الخاطئة والفساد جعلته يحرق ما يقارب من (18) مليون دولار من الغاز يومياً، او ما يكفي لإمداد (3) ملايين وحدة سكنية بالكهرباء، ويتربع العراق بالمرتبة الثانية عالمياً بالنسبة للدول الأعلى هدراً بالغاز الطبيعي.

3. القوى العاملة الشابة، والتي ستصل بعد عقد من الزمن الى ما يقارب (60%) من مجموع القوى العاملة في العراق، وهو مورد تجد العديد من الدول المتطورة والمتقدمة صناعياً وتكنولوجياً صعوبة في الحصول عليه، كما هو الحال في اليابان وألمانيا، لكن مع الأسف الشديد لم يتم العمل على تطوير مهارات هذه القوى، كما انها تعاني من البطالة الحقيقية او المقنعة مع انعدام وجود سوق عمل يستوعب هذه الطاقات ويؤدي الى هدر المليارات من ساعات العمل والجهد من دون فائدة تذكر.

4. القطاعات الحيوية الأخرى، كقطاع الزراعة والثروة الحيوانية والخدمات والسياحة والمصارف وغيرها، أصبحت قطاعات بلا قيمة تعتمد على المجهود الفردي، بينما يعتمد جل استهلاك العراق على الاستيراد الخارجي، في حين يمكن ان يتحول العراق الى أحد بلدان سلة العالم الغذائية ومن البلدان المتقدمة على مستوى تقديم الخدمات عالية الجودة وفي مصاف الدول السياحية بمختلف قطاعاتها.

5. قطاع الصناعة والإنتاج الصناعي، وقد سبق للعراق تحقيق تطور ملموس في هذا القطاع الا ان الحروب العبثية التي خاضها، إضافة الى سنوات الحصار العالمي المفروضة عليه، وعدم الجدية في إعادة احياء هذا القطاع، والاعتماد على المستورد، أدى في نهاية المطاف لاندثار الصناعة في العراق واهمال عشرات الالاف من المصانع، وبالتالي خسارة المليارات من العملة الصعبة الى الخارج.

الخلاصة التي يمكن ان نخرج منها، وكما قالها المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) ان: "قيادة الأمة بلا تفكير تعني الفشل الذريع، ومن يعطل جهاز تفكيره تستولي عليه الحاشية، فتسيره بدلاً من أن يسيرها، وهذا هو من أخطر ما يبلغه الإنسان، حيث يتحول إلى واجهة يستفيد منها الآخرون"، والعراق كان وما يزال يعاني من سوء القيادة التي أدت به الى الفشل الذريع في اغلب مناحي الحياة حتى وصل به الامر الى مجرد دولة تعاني من الازمات المزمنة، وهي مكانة لا يستحقها هذا البلد.

وعلى الرغم من الفرص العظيمة المتاحة امام المسؤولين، ما زال التفكير (السطحي/ الاني/ العشوائي) هو ما يحكم العقلية التي تسير شؤون البلاد، وما زال المجتمع العراقي يعاني من أزمات تجاوزتها الدول الأخرى منذ زمن طويل، كأزمة الطاقة الكهربائية وأزمة البنى التحتية المتهالكة وأزمة الخدمات العامة وأزمة السكن وغيرها، بينما تبرز اليوم المزيد من التحديات الجديدة على المستوى العالمي والتي لم يبادر العراق لمعالجتها او الاستعداد لها على اقل تقدير، كأزمة المناخ العالمي وأزمة نقص امدادات المياه.

وهكذا فإن دوامة الازمات والتحديات تقلب وضع العراق من حال لآخر من دون نقطة ضوء في نهاية النفق في حال استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه، او مع بقاء التفكير الكلاسيكي هو التفكير السائد لإدارة البلد ومقدراته.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2022
http://shrsc.com

اضف تعليق