q

لا يمكن الحديث عن استراتيجية أمريكية في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي بشكل واضح وملموس؛ بسبب غياب الرؤية الأمريكية الحقيقية في وضع استراتيجية عامة وشاملة في المنطقة، وتخبط الإدارة الأمريكية الحالية وما سبقها في وضع استراتيجية واضحة المعالم في منطقة الشرق الأوسط منذ ما يقارب العقدين، إلا أنه يمكن الإشارة إلى استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة ولا سيما بعد الاتفاق النووي من خلال التحرك السياسي والدبلوماسي في المنطقة، وتقديم الدعم العسكري لبعض الدول، والذي يعكس الملامح العامة لتلك الاستراتيجية في المنطقة. ووفقاً لصحيفة ‘‘وول ستريت جورنال‘‘ الأمريكية في تقرير لها: إن البيت الأبيض يصيغ - حاليًا - استراتيجية للشرق الأوسط تشمل ما تبقى من مدة رئاسة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، خلال الحقبة القادمة. هذه الاستراتيجية ستكون أكثر حزمًا في التعامل مع الصراعات في العراق واليمن وسوريا، في ظل التقارب بين إيران ودول (5+1). ونقلًا عن مسؤولين في الإدارة الأمريكية، بأن أوباما عازم على معالجة الصراعات في المنطقة، وإصلاح العلاقات التي توترت مع حلفاء أمريكا الرئيسيين في الشرق الأوسط، بسبب الإتفاق مع إيران، وذلك قبل مغادرته البيت الأبيض في العام 2017.

 ففي الوقت الذي أبرم فيه الاتفاق النووي بين إيران ودول (5+1)، انقسم العالم بين مؤيد ومعارض ومتحفظ بشأن هذا الإتفاق، واختلفت التكهنات بشأن الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط لما بعد فيينا، ودور إيران في المنطقة، وكيف سيؤثر ذلك على الأزمة السورية واليمنية؟، وهل ستستبدل الولايات المتحدة حلفاءها التقليدين ‘‘الأنظمة الخليجية‘‘ بالحليف "الإيراني" الجديد؟، على الرغم من أن الإتفاق لم يتطرق إلى دور إيران الإقليمي.

هذه الأسئلة هي من تعكس الاستراتيجية الأمريكية القادمة في المنطقة، ويمكن الاستدلال على تلك الاستراتيجية من خلال المؤشرات العامة، والسلوك السياسي والدبلوماسي للولايات المتحدة في المنطقة من خلال الجولات المكوكية التي يقوم بها وزير خارجيتها ‘‘جون كيري‘‘، ووزير دفاعها "اشتون كارتر" في المنطقة. وفي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى طمئنة حلفائها بشأن الاتفاق النووي، ودور إيران الإقليمي والدولي واستراتيجيتها لما بعد الإتفاق، تحاول الولايات المتحدة إعادة التحالف الاستراتيجي الأمريكي المصري بعد الاختلاف السياسي بين البلدين والاطاحة بالرئيس مرسي، والذي وصفته الإدارة الأمريكية آنذاك بالانقلاب على الشرعية السياسية، الذي تسبب بالانقطاع السياسي بين البلدين وتوقف واشنطن عن دعم القاهرة عسكرياً. إعادة هذا التحالف، تمثل في زيارة كيري إلى القاهرة، والدعم العسكري الذي قدم إلى مصر ومنه طائرات f16"". هذا التقارب ربما جاء لتهدئة مخاوف إسرائيل ولا سيما بعد أحداث سيناء الحدودية مع إسرائيل وزيادة عدد القوات المصرية فيها، إذ تعد إسرائيل تلك الزيادة في القوات تهديداً لها، في ظل تنامي دور تنظيم "داعش" والتنظيمات المتطرفة الأخرى، وهذا ما لوحت به مصر بعد زيارة كيري "بأنها ملتزمة باتفاقيات السلام مع إسرائيل".

 أيضاً مؤشر الجولات الأمريكية في المنطقة تشير إلى البحث عن إيجاد صيغة توافقية للأزمة السورية؛ لأن القضية السورية انتعشت بشكل ملموس على الساحة الدولية بعد الإتفاق النووي الإيراني، كما أن هناك رغبة من الإدارة الأمريكية بإغلاق القضية السورية قبيل انتهاء ولاية الرئيس أوباما، وربما يكون هذه المرة الحل سياسياً، ولا سيما بعد فشل الحل العسكري للإطاحة بنظام الأسد، وتحول سوريا إلى منطقة تهديد لكل الدول المجاورة والإقليمية، وأصبحت بيئة آمنة للتنظيمات المتطرفة، ومركز تصدير الإرهاب في المنطقة. هذا الحل السياسي ربما يتمثل في مؤتمر (جنيف 3)، وستكون هناك عدة أطراف في هذا المؤتمر، ولربما الجديد هذه المرة في المؤتمر هو الطرف الإيراني؛ لأن بيئة ما بعد الاتفاق النووي جعلت من الممكن اختبار استعداد إيران للعب دور بنّاء في تعزيز حل سياسي في سوريا، فضلاً عن دور إيران في الأزمة السورية ودعم النظام.

ولهذا ربما التأكيد على مؤتمر جنيف آخر خاص بسوريا من دون إيران لن يكون له معنى، ولا سيما أن واشنطن تدعم مشاركة إيران في اجتماع جنيف الثالث الذي ستعقده الأمم المتحدة قريبا. وسوف تشارك المملكة العربية السعودية وروسيا وتركيا وممثلين عن المعارضة السورية المعتدلة بالإضافة إلى حكومة ‘‘الأسد‘‘ أيضا. ذهاب إيران إلى (جنيف 3) بشأن الأزمة السورية، سيطرح كثيرا من الأسئلة، هل أن طهران تقبل بحل دون الأسد، وكذلك هو الحال لروسيا؟، وهل تقبل العربية السعودية وتركيا ببقاء نظام الأسد حليف إيران وروسيا، وهي التي صرفت مليارات الدولارات والتدريب والدعم العسكري للإطاحة به؟، أو يكون هناك حل توافقي بين الأطراف المتفاوضة يفضي بسحب إيران للفصائل الشيعية التي تقاتل مع النظام، بالمقابل تتعهد الولايات المتحدة وحلفاؤها الخليجيون وتركيا بالقضاء على التنظيمات المتطرفة وطردها من سوريا، وإيجاد صيغة حل بين المعارضة ونظام الأسد، ولو أن صيغة التوافق بين الأسد والمعارضة تبدو مشكلة متشعبة بحد ذاتها بعد الدمار الذي حل في سوريا وقتل أكثر من 250 ألف مدني، إلا أن كل الحلول والخيارات تبقى مطروحة بشأن الأزمة السورية بالرغم من صعوبتها؛ ولهذا تحاول الإدارة الأمريكية حل تلك الأزمة حلاً سياسياً؛ لأنها تدرك بأن حل الأزمة سيقود إلى حل كثير من القضايا في المنطقة، واحتواء تنظيم "داعش" والتنظيمات المتطرفة الأخرى. ويبقى السؤال: هل أن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة قادرة على حل الأزمة السورية، أم ستستمر واشنطن في الخيار العسكري الذي أثبت فشلة للإطاحة بنظام الأسد؟.

أما بخصوص المخاوف الخليجية من الاتفاق والتحالف الإيراني الأمريكي، فربما دول الخليج -لحد الآن - لا تعرف ماذا تريد من الاتفاق. فإذا كان الاتفاق النووي خطأ تاريخيا وغير مرضٍ للدول الخليجية، هذا يعني أن إيران ستستمر في برنامجها النووي وستصبح دولة نووية في حالة فشل الاتفاق، ويصبح التهديد أقرب من أي وقت مضى، ولربما ما تريده دول الخليج مقارب لوجهة النظر الإسرائيلية، وهي أن توجه ضربة عسكرية لتدمير مفاعلات إيران النووية، وهذا هو أسوء الخيارات الذي لم يدركه صانع القرار الخليجي. هذا يعني أن تكون هناك حرب عالمية ساحتها دول الخليج؛ ولهذا على صانع القرار الخليجي أن يستسلم للاتفاق النووي في ظل التطمينات الأمريكية المستمرة؛ لأن صبر الأخير ربما ينفد في ظل التعنت الخليجي، وستعتمد على الدور الإيراني في المنطقة.

ولهذا على دول الخليج أن تخضع للأمر الواقع، وتتماشى مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة، والقبول بإيران كقوة إقليمية في المنطقة، وستسعى الولايات المتحدة وفقاً لهذه الاستراتيجية إلى تقارب إيراني خليجي، وهذا ما بدأ واضحاً في السلوك السياسي والدبلوماسي الإيراني في تطمين دول الخليج ولا سيما السعودية وقطر. وعلى ما يبدو أن طهران أظهرت - حتى الآن - الاستعداد الكامل للتعامل بشكل جاد مع القضايا الإقليمية الأخرى، ولهذا ربما بدأ المسؤولون الإيرانيون يتحدثون سرًا وعلنًا في محادثاتهم مع الأمريكيين عن إمكانية المشاركة في حل قضايا أخرى بعد الاتفاق النووي مع القوى العظمى؛ ولذلك فإن الاستراتيجية الأمريكية بعد الاتفاق النووي تريد إشراك إيران في حل قضايا المنطقة وأزماتها، وأيضاً تحاول تقارب وجهات النظر بين طهران ودول الخليج بإقناعهم بجدية الاتفاق وسلمية برنامج إيران النووي، إلا أن المشكلة الحقيقية في التقارب الإيراني الخليجي، هو أن دول الخليج لا تطيق أي دور سياسي أو دبلوماسي للجمهورية الإيرانية في المنطقة، ولا تريد أي تقارب أمريكي إيراني، كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل؛ بسبب قبلية وطائفية الأنظمة الخليجية، وأيضاً شعور تلك الأنظمة بوجود أجندة خفية في أعمال واشنطن أكثر من الوثوق بأقوالها.

 وبالمجمل، لم تكن هناك استراتيجية أمريكية واضحة حتى الآن، ولم تفلح الإدارة الأمريكية في إعطاء وصف مقنع لاستراتيجية إقليمية ينسجم معها الإتفاق النووي، إلا أن هناك تكهنان بهذه الاستراتيجية نتيجة الدور السياسي والدبلوماسي للولايات المتحدة في المنطقة. ويرى البعض بأنه إذا ما أرادت الولايات المتحدة حماية الصفقة النووية والاستفادة الكاملة من الفوائد المحتملة التي تشمل تخفيضا جذريا لخطر الأسلحة النووية المنتشرة في المنطقة، فهي بحاجة إلى استراتيجية شاملة للأمن الإقليمي في الشرق الأوسط؛ لأن هذا الإتفاق بمفردة لم يجلب الأمن إلى المنطقة. هذه الاستراتيجية لم تفضِ إلى حلول في المنطقة ولم يتحقق استقرار دائم إلا إذا تحققت الافتراضات الأساسية وفق رأي "بلال صعب"، وهذه الافتراضات هي كالآتي:

أولا: لن يتحقق أمن إقليمي دائم في الشرق الأوسط دون دفعة جدية من قبل الدول العربية لتحقيق التنمية السياسية والاقتصادية والابتعاد عن التخندق الطائفي.

ثانيا: التغيير الحقيقي لا يمكن أن يحدث دون معالجة التحديات الأمنية الرئيسة التي تعاني منها المنطقة أولا، وهو في حد ذاته يؤدي إلى موقف نهايته سيئة مهما فعلت. وأضاف: إنه في عالم مثالي، فالدول العربية يمكنها القيام بذلك على حد سواء في وقت واحد، ولكن المشكلة هي أنها ليست لديها قدرة ومعرفة.

ثالثا: لا يمكن، كما لا يجب للولايات المتحدة أن تكون وكيلا ضاغطا من أجل التغيير في المنطقة، فالتغيير يجب أن يأتي دائما من الداخل، ولعل أحداث الربيع العربي تكشف ذلك بشكل جيد.

رابعا: لا يمكن للولايات المتحدة أن تحل التحديات الأمنية في المنطقة وحدها، ويجب أن تشمل هذه الجهود بجانب واشنطن شركاءها الإقليميين وحلفاءها العالميين.

في الختام يمكن القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية ليس بمقدورها العمل على استراتيجية أمريكية شاملة في المنطقة، على غرار تلك الاستراتيجيات الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وأثناء الحرب الباردة وما بعدها؛ لأن الولايات المتحدة غير قادرة لحد الآن على إيجاد استراتيجية تجلب الاستقرار إلى المنطقة، فهي متخبطة بين استراتيجية القوة الصلبة والناعمة في تحديث وتغيير الأنظمة السياسية التقليدية، إلا أنها تحاول إيجاد صيغة توافقية بين القوى الإقليمية تمكّنها من الوصول إلى استراتيجية شاملة للمنطقة بعيدة عن التوترات الطائفية، والفكر المتطرف. وبخلاف ذلك يستبعد الوصول إلى حلول سياسية سليمة لإنهاء أزمات المنطقة ‘‘السورية واليمنية‘‘، ووقف الاقتتال الداخلي ومحاربة الفساد والفكر المتطرف في المنطقة. وبذلك يمكن القول بأن الاستراتيجية الأمريكية لما بعد الاتفاق النووي هي استراتيجية المشاركة والاحتواء الإقليمية، إلا أن هذه الاستراتيجية لا يمكن أن تتعدى رئاسة أوباما المتبقية في البيت الأبيض.

* باحث مشارك في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
www.fcdrs.com

 

اضف تعليق