q

لم يعد شيئا معيبا ان يظهر انسان ما على شاشات الفضائيات ويقول انه "مثلي"، بل لم يعد غريبا ان يدافع هذا الانسان عن سلوكه ويبرر له بشكل طبيعي، بما يتوافق وحقوقه كانسان اولا، وثانيا انه ليس سلوكا شاذا بقدر ما هو إحساس طبيعي لديه حرمته التقاليد والاعراف التعبير عنه او الاستمتاع بإحساسه هذا، بل يروج ان علم النفس او بعض آرائه الحديثة تمنحه هذا الحق بالشعور الطبيعي لأحاسيسه الغامضة، لكن علم النفس يتناول طبيعة الانسان بما هي متكونة او متشكلة تحت ضغط وتأثير الظروف المحيطة، ابتداء من الاسرة، الى طرائق التربية، الى المجتمع. وهي عوامل التنشئة الاولى بالنسبة للسلوك البشري.

أكثر من هذا شاهدت على قناة الـ بي بي سي مثلي تونسي يبرر سلوكه ويشرعنه من خلال الدين واستدلالات غير مجدية من القرآن الكريم، وكنت قد قرأت لكاتبة اميركية ومن اصول بنغالية انها قد وجدت ما يبرر فعلتها في القران الكريم ولاتخرج اقوالهم عن تفسيرات سطحية وشخصية تتعلق بإباحة الله تعالى للذائذ ولكل ما يمنح اللذة للإنسان، وهو قول عظيم ووزر كبير، فالقران مبدأه ومعياره في الحال الانساني هو السعادة، واما اللذة فأنها في ترتيب القران لها تلحق بالسعادة مع القاعدة الانسانية أن ليس كل اللذائذ تمنح السعادة.

إن اللذة هي العنصر المكون للرغبة في الحياة الذي كونته أفكار ومنتجات وآليات الحضارة الحديثة، وقد تداخل مفهوم اللذة بشكل مباشر في فهم الحياة وهويتها لدى الانسان الحديث، بينما كانت السعادة هي منطلق الانسان في العالم القديم، عالم ما قبل الحداثة في النظر الى العالم والحياة. لقد كان هذا الانسان يبتكر حتى خرافاته من اجل ان يحصل على سعادته في بلوغ حالة من اليقين بمظهر وجوده وحقيقته، بينما الانسان الحديث يبرر كل خطيئاته للحصول على لذائذه. هكذا هي خطيئة النازية، والفاشية، والحروب المدمرة، ولعبة السلاح النووي، فالنصر صار يورث اللذة الدموية في العالم الحديث وليس السعادة بالقوة في العالم القديم، ثم اللذة بالمخدرات وأخرها لذة المثلية الجنسية، انها لعنة اللذة العابرة في هوية انحدارات عالمنا الحديث حصرا، انحداراته وليس كل انجازاته.

إن الحب كان يمنح السعادة في ثقافة العالم القديم، وهو ما يفسر ذلك الوله الانساني بقصص الحب القديمة، وتلك الرومانسية الرائعة التي تلاشت مع الواقعية المادية في حضارتنا الحديثة، والتي سوغت مفهوم اللذة بمنتجاتها وصنعت من الاستهلاك ثقافة في اللذة، وهنا استبدلته بمعنى السعادة، او روضت البشر الحديث على ثقافة اللذة في المعنى المادي بديلا عن ثقافة السعادة في المعنى الانساني، وفيها صنعت من العلاقة الجنسية مفهوما في اللذة تمكنت من خلالها استباحة كل المحرمات والممنوعات بعد إن مهدت تلك الحضارة بإحلالها اللذة محل السعادة في العلاقات الجنسية المشروعة والحلال، وكان واحدا من تمهيداتها هو البحث المتعاطف وغير الموضوعي مع العلاقات الجنسية الشاذة.

التعاطف البحثي غير الموضوعي

واحدة من صور التعاطف البحثي غير الموضوعي في تقييم حالات الشذوذ الجنسي والذي يصر هذا التعاطف على إدانة تسميته بالشذوذ ويؤكد على تمريره باسم المثلية، هو محاولة تصويرها على انها مورست بشكل واسع في مختلف الثقافات او وفق قول بول كيرتز في الثقافات كافة، بل إنه وفق تبريراته وجد لدى الكائنات الاخرى. -الفاكهة المحرمة، بول كيرتز-

وبينما كان يدين العالم القديم في ادبيات اخلاقه التناظر بين السلوك البشري والبهيمي، صار في العالم الحديث مقارنة تصلح في جدواها لتقييم سلوك بشري معين. وينقل كيرتز عن بعض المتعاطفين العلميين ان الشذوذ الجنسي قدم وظيفة اجتماعية –بايولوجية في بقاء الكائنات، ويستشهد كيرتز بقائمة من المبدعين الذين مارسوه.

لكن الى أي مدى تصلح تلك التبريرات لشرعتنه في الحياة البشرية والمطالبة بتشريع قوانين تبيحه مثلما صنعت الولايات المتحدة الاميركية في اكبر هزيمة أخلاقية لها في التاريخ المعاصر؟.

ان تلك المبررات لا تصمد امام مراجعة تاريخية واجتماعية. فقد أدانت كل الثقافات الانسانية ممارسات الشذوذ وخصوصا الثقافات ذات الطابع المتحضر، وممارسته بشكل واسع في الثقافات كافة وفق كيرتز لا تعضده الحقائق التاريخية ولاتؤيده الوقائع الاجتماعية في سلسلة مواقف المجتمع البشري إزائه في كل الثقافات.

وهنا حصرا أناقش ممارساته الواسعة مع التسليم التاريخي بممارسته بين البشر، لكن البشر على اختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم أدانوا هذا السلوك واعتبروه وصمة عار في الوجود الانساني، وليس مجرد عار في الوجود الشخصي للانسان، وإدانته الواضحة هذه في المجتمع البشري تفند مقولة ممارسته بشكل واسع، بل شكل ممارسته كانت منكمشة، وتحوطها سرية تستشعر الخجل البشري من هذا السلوك في الثقافات كافة، بل إن القرائن التاريخية تؤكد ممارسته في مراحل تراجع الدور الحضاري وانهيار الشخصية الذكورية القوية في الدول التاريخية، يتحدث تولستوي في رواية الحرب والسلام عن انهيارات البلاط القيصري الروسي وظهور شخصية مخنثة في البلاط وقريب جدا من القيصر، وقد اثار تخنثه استياء بطل الرواية وخيبة أمله في البلاط القيصري، وقد كان ظهور الشخصية المثيرة للجدل راسبوتين في البلاط القيصري الروسي تعبير عن سخف هذا البلاط وانهياراته، وقد اقترن بظهور مجموعة من المخنثين والمثليين من أمراء البلاط.

وقد شهدت الدولة الاسلامية في أيام انهياراتها كذلك هذا النوع من الظهور الاجتماعي للشاذين وبوادر ما أطلقوا عليه الغلمنة، ومعاشرة المخنثين المثليين كانت واحدة من المساوئ التي أسهمت في تدمير الحضارة الاسلامية.

ما أريد قوله ان كيرتز يناقض التاريخ البشري في ادعاءات ممارسة الشذوذ بشكل واسع في الثقافات كافة، بل ممارسته كانت في مراحل إنهيارات تلك الثقافات، وما يناقض قوله هذا أيضا حين يقول (هناك شعور قوي باحتقار الشذوذ الجنسي ضمن المجتمع والكثير من الناس يجد فكرة الشذوذ الجنسي مقززة) -الفاكهة المحرمة، بول كيرتز،ص 254- ومن الممكن ان يعتبر علماء النفس الحديثين أن الشذوذ الجنسي ليس مرضا بل ميلا مختلفا/كيرتز، لكن علماء النفس الغربيين ينطلقون في جزء كبير من رؤيتهم الثقافية التي تشارك تصوراتهم العلمية من خلال اعتبارات وتصورات غربية تشكلت بفعل النزعة الفردية التي طغت على أشكال ومضامين الثقافة الاوربية المعاصرة، لاسيما تشكلاتها الاخيرة فيما عرف ب "مابعد الحداثة" وهي التي قوضت الكثير من المركزيات في العقل والاخلاق وصور الحياة الموروثة عن الاجيال السابقة بما فيها أجيال الحداثة، واعتنت بالهوامش البشرية التاريخية والاجتماعية وفق ادعاءاتها الايديولوجية وهي مادعت الى التعاطف مع الافراد الشاذين الذي نجده لدى بعض الباحثين والدارسين الغربيين غير الموضوعيين في تحديد هوية الشذوذ الجنسي وطبيعته واعتبار سلوك أفراده يرتبط بميل داخلي مختلف/كيرتز، لكن توصيفه بالمختلف هو ما يشير الى اختلافه عن الطبيعة البشرية المتشاكلة والمتشابهة الحضور في الثقافات كافة.

اضف تعليق