q

"المعرفة" هي القوة ـ التي تقود الى الحقيقة، لكن لا يستطيع ان يحمي الحقيقة إلا من يمتلكها.

واذا ما تحدثنا عن دور وسائل الإعلام في الشأن العراقي، فإننا نتحدث عن الصحافة والإذاعة والتلفزيون. وما يهمنا هنا الإعلام العراقي حصراً، مع التأكيد على: اننا يجب ان ندرك بأن الإعلام الأجنبي الذي دخل بعد غزو العراق ولغاية اليوم، هو عدم المس بالأهداف الاستراتيجية للدول التي ينتمي اليها وشاركت في التحالف الدولي لاحتلال العراق.. لكن على ماذا يرتكز الإعلام العراقي؟ وكيف يحافظ على سلوكه الوطني، ويستمد مصادر قوته او حجم تأثيره؟

في الدول المتطورة يمارس الإعلام نشاطه على أنه احد الاركان الرئيسية لبناء الدولة ونهضتها. ولا تكتمل النظرة النموذجية تجاه الصحافة كمؤسسة رقابية لها القول والفعل، الا بوجود حريات حقيقية ومعطيات قانونية تحميها. ومن جانبه، يصر الإعلام على التمسك باللوائح والمواثيق التي تحفظ مصادر قوته ومنها ـ مباديء العمل الصحفي ـ والتمسك بالقوانين التي ترعاها. كلاهما يشكلان أدوات قيمية ضاغطة، يستطيع من خلالهما أن يمارس تأثيره في الحياة العامة على الدولة والمجتمع. ألا أن الاعلام العراقي يفتقر كل هذه المقومات بسبب انزلاقه سياسيا باتجاه الولاء للحزب أو الطائفة، الأمر الذي جعل منه جهازا غير مستقل ولا تطلعات ريادية له.

الإعلام العراقي في العهد الملكي، ونعني بذلك الصحافة المستقلة والحزبية العلنية أو الصحافة "السرية" لأحزاب المعارضة غير المرخصة. على الرغم من المضايقات وقلة الامكانيات التي تعاني منها، كانت تمتلك رشدا اخلاقيا وسياسيا نقيا متعدد الآفاق والجوانب ومتناغما مع هموم الشعب ومصالح الوطن. تدافع في كل زاوية من زواياه عن حقوق الناس، ولا تحول عن نقد الاوضاع السلبية وتسلط الساسة وأصحاب القرار.

اما في العهد الجمهوري الأول حيث انتشرت وسائل الإعلام المتنوعة الاتجاهات على نطاق واسع. تحولت الصحافة الى منابر لنشر الفكر التنويري والمساهمة الايجابية في مجالات التوعية الجماهيرية، الوطنية والتربوية. مهماً في تلك الفترة ان اغلب وسائل الإعلام، المقروء والمرئي والمسموع، كانت منضبطة تضع مسألة الدفاع عن الحقوق العامة للمواطنين ومصالح العراق وشعبه فوق كل اعتبار. إلا ان الأمر قد تغيّر في عهد صدام، حيث اصبح الإعلام واحدا من الوسائل الدعائية التي تطبل لرأس النظام وحروبه، كما تم إغلاق العديد من الصحف الوطنية التقدمية وتعرض خيرة الصحافيين والكتاب للملاحقة والاعتقال.

بعد غزو العراق واحتلاله في نيسان 2003 تم حل مؤسسة الإذاعة والتلفزيون العراقية العريقة وتوقفت الصحافة من ممارسة عملها كما واغلقت نقابة الصحافيين أبوابها وتشتت منتسبيها. وفي اواسط 2003 صدرت دون اذن صحيفة "طريق الشعب" أول صحيفة وطنية عراقية بعد الغزو، لتكون آنذاك المصدر الوحيد لنقل الاحداث وهموم الناس على الساحة العراقية. في شهر حزيران بدأت سلطة التحالف المؤقتة "CPA" بتوجيه من رئيسها السفير بول بريمر، وفقاً لاتفاقية السلام الشامل العراقية وخطة التخصص التي وضعها الاتحاد الدولي للاتصالات "ITU" والتي تتضمن معايير تقنية متعلقة بحقوق البث والاتصال بـ (منطقة "1" أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط) بإصدار التراخيص لوسائل الإعلام، المقروء والمرئي والمسموع "بالمناسبة هي منظومة شبكية رقابية معقدة يديرها خبراء لأغراض التنصت بالمنطقة لصالح الولايات المتحدة واسرائيل". وعمل مكتب المستشار الأمريكي الأقدم للاتصالات السلكية واللاسلكية في العراق على تسهيل طلبات المتقدمين من عراقيين وجهات اجنبية وعربية، وتقديم الاموال والمعدات اللوجستية والفنية لهم، مقابل عدم التعرض لسياسة الولايات المتحدة الامريكية واهدافها في العراق. واوعز بالاضافة الى الشروط العامة للتراخيص، الى ادراج بعض القيود لتوفير بعض السيطرة على المذيعين والصحافيين العراقيين العاملين في وسائل الاعلام التي تم ترخيصها، وبذلك اصبحت سلطة الاحتلال المشرع الاساس لعمل وسائل الإعلام ومراقبتها.

وفي ظاهرة غير مسبوقة انتشرت في عموم البلاد العديد من وسائل الاعلام "صحف، اذاعات، محطات تلفزة، الخ" بدعم من قوات الاحتلال الامريكية وتمويل جهاز المخابرات المركزية ومؤسسات إعلامية أجنبية وعربية وبشكل خاص قطرية سعودية، مرتبطة بأجندات خفية. وسيطر سياسيون جهلة الى جانب مسؤولين في الدولة وقادة احزاب ومنظمات طائفية غير معروفين بين الأوساط العراقية وليس لديهم أي خبرة في العمل الصحفي على أغلب وسائل الاعلام هذه. وانتشرت في طول البلاد وعرضها صحف وفضائيات واذاعات خاصة، حصلت ولاتزال تحصل مجانا على اموال طائلة من خزينة الدولة العراقية.

في عام 2004 تشكلت شبكة الإعلام العراقي IMN0 التي تشرف على معظم وسائل الاعلام ومن بينها قناة العراقية وجريدة الصباح غير المستقلتين التابعتين للحكومة العراقية. ورغم أن الشبكة ممولة من المال العام إلا أنه لا سلطة للحكومة عليها؛ لا في شأن ادارتها والاشراف على سياستها أو تعيين المسؤول عنها. فيما مورست على العديد من وسائل الإعلام المستقلة والصحافيين العاملين فيها الكثير من الضغوط وبشكل يتنافى مع مبادئ حرية الصحافة والإعلام العامة، بالاضافة الى الاضرار التي لحقت بهم وبمستقبلهم المهني والمعاشي جراء ذلك.

يوجد في العراق الآن حسب الاحصائيات المتوفرة حوالي 89 قناة تلفزيونية و150 محطة اذاعية، وما يزيد على الـ 200 مجلة وصحيفة يومية واسبوعية و400 وكالة انباء وعدد هائل من المواقع الالكترونية والاخبارية. وبسبب الافلاس وعدم الحصول على الاعلانات أو الدعم المالي كنظيراتها غير المستقلة، يهدد الاغلاق مصير العديد منها كما يقول نقيب الصحافيين العراقيين.

وعلى الرغم من مرور اكثر من اثني عشر عاما على غزو العراق، فان أغلب وسائل الإعلام قد فشلت على نحو كبير في رسم استراتيجية إعلامية جريئة. تتناول الأوضاع المتردية في البلاد، وترصد التحديات التي يعاني منها المجتمع بموضوعية. فتحولت بسبب سيطرة مافيات السياسة على العديد منها، الى مشاريع تطبل لقادة الاحزاب في مجتمع يبدو في اكثر الحالات غير مهتم بمستقبله ولا رؤى بديلة لديه.. لكن هناك ثمة وسائل إعلام عراقية مستقلة من صحف وفضائيات قل نظيرها، تحرص على تناول الاوضاع العامة للمجتمع ونقل معاناة الناس للرأي العام بكل حرص ومسؤولية. ان ما تقوم به قناة البغدادية من خلال برامجها وأهمها ستوديو التاسعة وبرنامج مع الناس، ظاهرة مثيرة للغاية. على الرغم من بعض الملاحظات، فانهما من أهم البرامج التي تثير اهتمام المتلقي وتقربه من الواقع العراقي بكل تفاصيله وأحداثه وحيثياته وآلامه دون رتوش أو رقيب. كما ويضعا المواطن بمرأى من المسؤول على الحقيقة ليدرك حجم المأساة التي يمر بها وطنه ومجتمعه فيلعن الزمن والساسة على حد سواء.

ويبدو ان أغلب وسائل الإعلام العراقية على مختلف مشاربها، لا تجد نفسها معنية بالشأن العام الذي يعاني من القصور والازمات والاخطاء السياسية. بالاضافة الى سوء ادارة الدولة الذي يرافقه عمليات نهب وابتزاز سياسي ودعوات لتقسيم العراق واستئصال مناطق وضمها تحت طائلة التهديد والمساومات الى محافظات اخرى، مثلما يجري من محاولات لتغيير جيوديمغرافي في شمال العراق. وفي منعطف خطير تمر به البلاد، ترهل دور الإعلام في معالجة اسباب ظاهرة الفساد المالي والاداري، وفقدان الأمن وتراجع النهضة العلمية ودور التعليم والصحة، وخراب الاقتصاد والصناعة والزراعة والبيئة وفقدان الماء والكهرباء وتفشي الأمراض الخطيرة وتفكك المجتمع واتساع حالات الطلاق والترمل وانتشار فاقة التسول وازدياد عدد اليتامى والمهجرين والعاطلين عن العمل.

وكسلطة رابعة كما يقال، لم يتحمل الاعلام العراقي مسؤولياته ازاء أجهزة الجيش والشرطة والامن والاستخبارات، والمطالبة بجعلها أجهزة فاعلة، قياداتها من المتخصصين واصحاب الخبرة والكفاءة والنزاهة. ولم يرتق الى مستوى الاحداث كما ينبغي ليؤدي عمله بجدارة، ويواجه الارهاب الذي تمارسه الميليشيات والحركات التكفيرية والطائفية التي عاثت في الارض فسادا وقامت بقتل الناس الأبرياء وهدم المدن وتخريب معالم الحضارة والتراث الوطني العراقي، لا بل راح بعضها بقصد او دون قصد يروج لداعش ويمده بمعلومات خطيرة.

اكثر من عشرة اعوام ولت والأزمات تنمو والاوضاع العامة تسوء يوما بعد يوم، والاعلام العراقي لازال يراوح مكانه، بعيدا عن ما يمليه عليه ضميره وواجبه الحرفي، ازاء العديد من القضايا التي تعني الوطن والمواطن. اصحاب النفوذ وذويهم تطبعوا على النهب والسرقات ليثروا على حساب الفقراء واليتامى. والدولة بلا رقيب يمارس الضغط على السلطة لتشريع قوانين تحمي مصالحها كما وترعى مصالح المجتمع المصيرية الهامة. كقانون المحكمة الاتحادية، وقانون الاحزاب والانتخابات الذي من شأنهما ترسيخ مبادئ انتخابية سليمة لا تسمح للمرشح او الحزب الوصول للبرلمان دون الحصول على نسبة الـ 7% من مجمل اصوات الناخبين لمنع العابثين من الحصول على مقعد في البرلمان. أو قانون الاحصاء والاستفتاء والخدمة الالزامية للقضاء على الهيمنة الطائفية داخل المؤسسة العسكرية.

ووفقا للدراسات البيانية التي نشرتها منظمات مجتمعية وعالمية، بقي الفقراء والعاطلين عن العمل واصحاب الدخل المحدود بعيدين عن نقل وسائل الاعلام العراقية معاناتهم. ورغم اوضاعهم الصعبة، فان التقشف لا يمس غيرهم من الطبقات العليا، كالوزراء والنواب ومن في درجاتهم، الذين يتقاضون رواتب لا مثيل لها في العالم ولا تنسجم مع الدخل العام لباقي شرائح المجتمع. وبقيت الموازنة المالية السنوية للدولة العراقية كما في كل عام، دون رقابة، بعيدة عن انظار الإعلام والخبراء والمتخصصين. ولم يسأل عنها وعن كيفية توزيعها أحد. حيث يتم بطريقة لا تنسجم والحجم الجغرافي ـ السكاني لكل محافظة، ووفق مبدأ "التوافقية الطائفية" الذي يجيز نسب وامتيازات لمحافظات على حساب اخرى كما هو الحال مع محافظات شمال العراق الثلاث، حيث بلغ ما تحصل عليه بالاضافة الى جباية عائدات الكمرك ونفط الشمال ما يفوق جميع محافظات الجنوب أو المناطق الغربية مشتركة.

اذن نحن امام واقع إعلامي عراقي متهري، زاد من انحطاطه نظام المحاصصة الطائفية والفساد الاداري والمالي المتفشي، امام انهيار كامل للمؤسسات الرقابية ـ التشريعية والتنفيذية والقضائية. ووجود دستور غير كفء يحمل العديد من العيوب والنصوص المثيرة للجدل، التي تستغل لممارسة الضغوط والابتزاز دون أن يحد من شأنها اي قانون أو قضاء. وعلى الرغم من مرور عقد ونيف على فرض الاحتلال لهذا الدستور، بقيت أهم 3 قوانين ـ كقانون الاحزاب والانتخابات والاعلام دون الاقرار. لان لا مصلحة للقوى الطائفية فيها. والسؤال: ما مصلحة الإعلام أن يلتزم الصمت ازاء كل ما يجري؟ ولماذا لا تتحرك القوى والأحزاب لتحريك الشارع والضغط على الحكومة لحلحلة الازمات الخانقة التي يعاني منها المجتمع برمته؟.

لقد نضب دور الصحافة والإعلام العراقي، وأصبح متداعيا ينخره الفساد ويسيطر عليه رؤساء تحرير تابعين لمافيات السياسة والاحزاب، يتلبد خلفهم ثلة من الصحافيين المنتفعين والمتملقين. ولعدم وجود قانون يرعاه ويصون حقوقه، بقي الصحفي غير محمي، قضائيا وسياسيا. ولاعتبارات اخلاقية ومهنية تثنيه عن اداء واجبه، كف عن نقد الاخطاء التي تنشأ عن مؤسسات الدولة وأهمها السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي يفترض أن تكون الفيصل في اتخاذ الاجراءات القانونية على اساس العدل ومراعاة الحقوق العامة ومفهوم المواطنة ـ على اعتبار ان الانسان اثمن رأسمال ينبغي أن تصان حياته وتكفل جميع حقوقه.

ان انفعالات الرأي العام بسبب ممارسات الساسة والمتسلطين وانعدام الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والنفسي، متعددة للغاية، وستشتد كلما ضاق افق الأمل بالمستقبل وتعاظمت التحديات والضغوط الاجتماعية والقوانين السلبية. وعندما تبلغ الانفعالات درجة النضوج ستصبحً وسيلة ذات اثر عظيم نحو التغيير والبحث عن بدائل جديدة تضع حدا للقهر والمعاناة على كافة الصعد. كما وتصبح سلوكا لدحض الرأي السائد على ان: الناس تتكيف مع الواقع المفروض، وانهم بسبب التسلط اقل استعدادا للتعبير علنا عن مشاعرهم لتغيير واقع معاناتهم. ان ما يجري في العراق مخطط له ومحسوب، والكتل السياسية وإعلام مافيات احزاب السلطة حصرا، هي من يحرك لخرابه واحداث حالة من الفوضى والرعب داخل المجتمع، لالهائه وبث روح الكراهية والصراع الطائفي بين ابنائه بهدف ضمان مصالحها وأمنها.

لإنقاذ مستقبله ومستقبل ابنائه، يحتاج العراق، الى تغيير جذري في هيكلة نظامه السياسي وترميم مؤسسات الدولة واعادة اصلاحها اداريا وبشريا، وعزل تجار السياسة وسراق المال العام الذين تسببوا بخراب البلد وهدر امواله. وكي لا يبقى العراق رهينة بيد العابثين، على الإعلام أن يلعب دورا رياديا لتنوير العقل العراقي وبعث روح المسؤولية فيه، لتوجيه البوصلة نحو التغيير، ووضع حدٍ لتفاقم الاوضاع وما يجري من خراب ومسخ للإنسان. اذ ليس امام العراقيين اي خيار غير مواجهة أصحاب المحاصصة الطائفية الفاسدين والمفسدين.. العراق بلدنا ولا يمكن أن نراه يتدمر ونسكت!!

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق