q

يرى المفكر الإسلامي والمرجع المجدّد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قده)، أن علم الفقه، يرتبط بعلاقة وثيقة بعلم التاريخ، الذي يعتبر جزئي من جزئياته، لكنه جزئي معنوي كسائر المعنويات، وليس جزئيا ماديا، أي إن جزئيته منه في المعنى وليس المادة، بأشكالها الحية والجامدة، رغم إن عامل الزمن ينطبق على كليهما، المعنوي والمادي.

ويذهب المفكر المجدّد، الى أن تطور الفقه تكاملي، لجهة أن فقه كل مرحلة زمنية، تكمّل التي سبقتها، وكل فقيه يكمل ما قدم الذي قبله، فيكون بذلك تطور الفقه إلى الأعلى، وليس إلى الانحدار، كما هو أثر الزمن على الأشياء، وهو محور تمايزه عنها.

وإن العلاقة الأخرى بين الفقه والتاريخ، تتشكل من خلال تسلسل مراحل وأدوار فرض الأحكام، ليس جهلاً وتداركاً، وإنما رحمة بالناس وتأهيلاً لهم، لاستيعابها والعمل بها.

وعليه فإن دراسة آثار علم الفقه، والنتاج العلمي الفقهي، في مرحلة تاريخية معينة، تندرج تفريعاً في إطار حقل علمي بحثي، هو دراسات "التراث العلمي"، فيكون فرعها "دراسات التراث العلمي الفقهي"، التي تنصرف إلى التحقيق في مناهج البحث الفقهي، ضمن نطاق المرحلة الزمنية والمكانية، والآثار العلمية المنجزة فيها، من مؤلفات ومصنفات، أنجزها العلماء والفقهاء في تلك المرحلة، ثم تقييمها بعد تحليل معطياتها، وفق منهج علمي تجريبي واستقرائي، يستدل على استنتاجاتها، من استقراء تام لكافة جوانب المرحلة التاريخية، وفق منهج البحث التاريخي.

في مقاربة البحث الفقهي التاريخي، يتبين أن الاستنتاجات المستنبطة والمستدل عليها، من مقدمات رصينة وحقائق ثابتة، ستفضي إلى توصيات علمية محددة، تكون بمثابة دالٌات للبحث العلمي الطريقي، والتحقيق الفقهي المعاصر، في الاقتداء بها لجهة جوانب القوة والضعف، في مباحث الأحكام واحتجاجاتها، وبهدف تراكم الخبرة والتجربة البحثية في التحقيق الفقهي، وعلومه الطريقية المختلفة، مع إسقاط الظروف والمستحدثات المعاصرة ومعطياتها.

كذلك فإن البحث في التراث العلمي الفقهي، يعد جزء من تاريخ الفقه وتاريخ التشريع، لدراسته التطور التاريخي لعلم الفقه والشريعة، في مراحلها الزمنية، وهذا يؤشر ضرورة تضمين مناهج الدرس الفقهي، إضافة الى مناهج الدراسة في العلوم الدينية عموماً، لمادة العلوم التاريخية وتفرعاتها، وبالمقدمة منها دراسة فلسفة التاريخ، لجهة أهمية الموضوع ودخليته، في الدراسات الدينية وضمنها الفقهية، فضلاً عن ضرورة دراسة التاريخ العام، سواء الإسلامي منه، أو تاريخ الأمم والحقب الأخرى، لنفس الدالّة السببية.

الجانب الآخر من البحث المقارن، في الفقه والتاريخ، والذي يؤكد الحاجة المذكورة وطلبها، هو وقوع الفقه ضمن ظروف واقعية، حيث شرٌعت الأحكام وفق الظروف الموضوعية لحياة الناس أو المكلفين، وعليه فإن تأثير التاريخ في الفقه، يظهر في تفكير الفقهاء عندما يطرأ عنوان ثانوي، حيث يتغير الحكم القائم حسب العنوان، تغيراً وتجديداً، من نتائج تأثير التاريخ في الفقه.

ولهذه الأسباب ومدركاتها، كان اهتمام المفكر المجدّد بالدراسات التاريخية عموماً، الذي لم يكن اهتماماً موقوفاً، الى الدعوات الى دراسته وتدريسه فقط، أو التثقيف العام وفقه، وحثّ المريدين الى العمل به، انما كان ذلك في اشتغاله الفعلي، وتخصيص جانب ملموس من وقته، ومن نتاجه الفكري والعلمي، في البحث والتدريس والتأليف، مما يظهر الحاجة، الى دراسة هذه الجزئية المهمة في فكر المجدد، وفي تراثه العلمي.

إن مقاربة علاقة الفقه بعلم التاريخ، وفق هذه الثنائية المتلازمة، تستوجب تبيان نطاقها ومرجعيتها، وذلك لجهة ارتباط هذا العلم بعنوان الفقه، وبمهنة الفقيه، وداّلته الوظيفية، ومهامه المهنية الخاصة، المرتبطة بالمؤسسة الشرعية، سواء التدريسية أو الإفتائية، فضلا عن مهامه العامة، المجتمعية والجماهيرية.

فمن المهم تبيين معالم هذه العلاقة، ومكنوناتها، وتأشير جوانب انتفاع الفقه، من الدراسات التاريخية، وبضمنها التاريخ الفقهي، أو التراث العلمي الفقهي، الذي يعد لأغراض توثيقه وإحيائه، من المكوّنات الرئيسة في التراث العلمي، ثم لدراسة تاريخ التشريع الإسلامي، فضلاً عن عنوان التاريخ العام، الذي هو أصل الدراسة في التاريخ.

ومن ثم الجوانب المعرفية "الإبستيمولوجية"، أو ما يطلق عليها بعلم العلم، المتعلقة بدراسة الفكر من التاريخ، وبالتالي فكر العلوم وفلسفتها، وتطور تقنينها، وهو جانب معرفي، يتماهى ودراسات التراث العلمي، كونه يندرج في النتاج الحضاري الثقافي الانساني، وعليه فإن الفقيه وطالب الفقه، يجد ضالته في الدراسات التاريخية للمفكر المجدد، التي يمكن تصنيفها ضمن عنوان البحث المقارن، في الفقه وفلسفة التاريخ، ودور العلوم التاريخية في تأسيس الدراسات الدينية والبحوث الفقهية.

بيّن المفكر المجدد العلاقة الوثيقة بين الفقه والتاريخ، مؤكداً فيها المفهوم العام لفلسفة التاريخ، وأهمية دراستها، وخلص الى أنها علم مستقل بالجامع، وهو بذلك ينتج معرفة الإنسان، لأسباب الوقائع التاريخية، المتعلقة بقيام الدول والحضارات، وأسباب سقوطها.

فسماحته بذلك يوجز النظريتين المتقدمتين، لدراسة فلسفة التاريخ، وهي نظرية المفكر "ابن خلدون"، في سببية قيام الدول وسقوطها، والتي تعرف بنظرية العصبية، وثم نظرية المفكر البريطاني "توينبي"، المتعلقة بقيام الحضارات وسقوطها، والتي تعرف بنظرية التحدي والإستجابة، كون المفكّر المجدّد، يرى أن الدنيا هي محيط الأسباب، والأسباب تنتهي الى المسببات، إستبصارا بالآية الكريمة "ثمّ اتبع سبباً".

وهذا بالطبع لا يشمل الدراسة للوقائع والأحداث المفردة، وسلوكيات شخوصها، إصلاحاً أو إفساداً، نجاحاً أو فشلاً، فتلك دراسة تاريخية، ضمن علم التاريخ، تعتمد استقراء المفردات فيها، لاستظهار كليات عامة، لتعليل هذه الوقائع والأحداث، ضمن المنهج التجريبي التاريخي، وهي لاحقا ستنظر جزئياته، وفق المنهج الحدسي "الإمبيريقي"، لأغراض استنباط كليات علم "فلسفة التاريخ".

إن موضوع البحث التاريخي في التحقيق الفقهي، يؤشر أهمية التدقيق في المباحث التاريخية، لجهة التسلسل الزمني والوصفي للرجال والوقائع، وانسجامها مع نطاق الدراسة المعنية، وتحديداتها الزمنية والفكرية والوظيفية، وإن الواقع الفعلي، يحدّد فكراً، والى ذلك يشير المفكّر المجدّد، بأن "التاريخ هو تاريخ فكر وعمل، وحيث أن العمل، إنّما ينشأ من الفكر أيضاً، يكون التاريخ، تاريخ فكر في نهاية الأمر"

وقد اتبع التحقيق الفقهي، منهجاً عقلياً رصيناً، الى جانب المنهج النقلي التقليدي، إذ يبين تاريخ الفقه ذلك، بدءاً بمباحث وتحقيقات الشريف المرتضى، السابق إلى فتح باب الاجتهاد، والسابق في الفقه المقارن، وذلك يؤشر الحاجة الدخلية، للدراسات التاريخية، لجهة الصلة الوثيقة، بين الفقه والتاريخ، في انفتاح التحقيق البحثي الفقهي، فضلاً أن دليل الإجماع، ولجهة اشتراط جمع من الفقهاء، على كشف المعصوم فيه، بمعنى شرط حضوره في الإجماع، فذلك يكون تحقيقه، من خلال البحث التاريخي، ومناهجه العلمية حصراً.

وفي المقابل، فإن إلقاء الضوء على هذه الجوانب المنهجية المقارنة، في البحث العلمي التاريخي والتحقيق الفقهي، سيكون من شأنها، في حالة التوفيق لها في الدراسة التحليلية، أن يكون البحث محققاً لغايته وأهدافه، في بيان الرؤى العلمية التاريخية، السائدة في المجتمع العلمي، تبعاَ لزمانها وظروفها.

اضف تعليق