q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

الإمام الشيرازي ومشروعه الثقافي المتكامل

بمناسبة الذكرى الرابعة عشر لرحيل الإمام الشيرازي

مثلما بذل الامام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، جهدا كبيرا ومتميزا في بحوثه وكتاباته في مجالات، العلم والسياسة والاقتصاد والفقه والبيئة والعولمة وغيرها، قدّم لنا مشروعا ثقافيا متكاملا عبر العديد من مؤلّفاته، ومحاضراته، والبحوث الكثيرة التي تطرق فيها للمشاكل الثقافية في البلدان الاسلامية، وقدم رؤيته الواضحة في هذا المجال، موضحا أسباب التراجع الثقافي بين المسلمين، و واضعا الخطوات التي تتعلق بالمعالجة عبر التخطيط، والمثابرة في التصدي لرأب الصدع، في الثغرات التي تخللت الثقافة الاسلامية.

ولكي يكون الامام الشيرازي واضحا في رؤيته لما آلت إليه الثقافة في المجتمع الاسلامي المعاصر، فقد أعلن بوضوح تام عن تأخر الثقافة في البلدان الاسلامية، وبين أن المسلمين تأخروا في المجال الثقافي كثيرا، إذ ذكر سماحة الامام في كتابه القيّم الموسوم بـ (كل فرد حركة، وفلسفة التأخر)، حول هذا الجانب، بوضوح تام: (إن الثقافة عند المسلمين تأخرت تأخراً كبيراً).

وقد بيّن الامام الشيرازي ذلك البون الشاسع، بين ما كانت عليه ثقافة المسلمين في الازمنة الماضية، وبين ما أصبحت عليه في الحقبة الراهن، حيث تراجعت الثقافة، وانحسرت آفاقها، وصارت شبه تابعة، حيث العادات الدخيلة التي تبثها الثقافات الهجينة والغريبة عن الثقافة الاسلامية، على العكس مما كان عليه المسلمون سابقا عندما قادوا البشرية نحو ضفاف العلم والنور، وشاركوا في فتح الآفاق المضيئة أمام الانسان.

لذلك يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب تحديدا: (بينما كان المسلمون هم المثقفون في الأزمنة الإسلامية، وكان غيرهم عائلاً عليهم، انعكس الأمر منذ تركوا الإسلام، فصار غيرهم هم المثقفين، أمّا المسلمون فصاروا أبعد من ذيل القافلة بمراحل).

ويؤكد سماحته الفارق الثقافي الكبير بين المسلمين وغيرهم من الامم في العصر الراهن، الامر الذي انعكس بصورة مسيئة لواقعهم، ليس الثقافي فحسب، او طبيعة الوعي، او نقص العلم وما شابه، وانما في عموم المجالات، حتى الصناعية منها، فالذي يتخلف في الثقافة لا ينحصر تخلفه وتراجعه فيها فقط، وانما ينسحب ذلك على المجالات الاخرى، الاقتصادية والسياسية وغيرها، فتصبح حياتهم كلها متأخرة.

كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي: (بينما غير المسلمين يصلون إلى القمر، وما فوق القمر، لا يصنع المسلمون حتى الإبرة).

ما هي معايير الثقافة؟؟

ويحدد الامام الشيرازي المعايير التي يمكن أن تُقاس في ضوئها ثقافة المجتمع، ويضمّن مشروعه الثقافي رؤيته في هذا الخصوص، فثمة مقاييس يمكن من خلالها ان نعرف مدى التطور الثقافي لشعب أو امة ما، كذلك يمكننا قياس الخط البياني لتخلف الامم والشعوب ثقافيا، ومن ضمن هذه المعايير التي يمكن أن تُقاس فيها درجة الوعي والثقافة لمجتمع ما، الوسائل السمعية والبصرية الناقلة للفعل الثقافي وتوصيله الى الوسط المستهدَف.

كذلك من المعايير التي تستخدم او يمكن استخدامها لقياس الثقافة، درجة إقبال الناس على المطالعة، وحلقات النقاش، وسعة البحث حول المواضيع المختلفة التي تهم حياة المجتمع، إذ كلما كانت هذه الحلقات منتعشة ومنتشرة بين الاوساط العلمية والجامعية، كان ذلك دليلا على انتعاش الثقافة، وكلما كان دور المؤسسات التعليمية والمنظمات الثقافية فاعلا في هذا المجال، كلما كان ذلك دليلا قاطعا على حيوية الثقافة.

يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب بصورة لا تقبل اللبس: (من الواضح أنّ ثقافة الأمم تقاس بوسائل الثقافة السمعية والبصرية وبساعات الدراسة والمطالعة والمباحثة).

ويعوّل الامام الشيرازي كثيرا على دور المثقفين والمفكرين، في اتخاذ الدور الصحيح لهم، بخصوص نشر الثقافة والفكر السديد والوعي الذي يحتاجه البسطاء من الناس وغيرهم، لذلك يطالب الامام الشيرازي بتحريض المفكرين والمثقفين جميعا على التأليف والنشر، ويؤكد على أهمية الافكار المطروحة، من حيث الجوهر والمضمون، واهمية الابداع والابتكار في الافكار، من اجل رفع المستوى الثقافي لعموم الشرائح.

وعندما يتم التحقق من مشاركة المثقفين عبر تحريضهم، على القيام بدورهم في رفع ثقافة المجتمع، بكل طبقاته، لاسيما ذوي المستويات الأدنى في الوعي والثقافية، نكون قد خطونا الخطوة الأهم نحو الارتقاء والتطور المجتمعي، وهذا هو لبّ المشروع الثقافي الذي سعى لترسيخه الامام الشيرازي، ونشره بين المسلمين عبر وسائل النشر المتاحة.

ولا ضير أن يعمد المثقفون والمفكرون المسلمون في العصر الراهن، الى استثمار وسائل التوصيل كافة، لنقل افكارهم البناءة الى المسلمين في عموم العالم، بل لابد من استثمار جميع وسائل الاتصال المتاحة لتحقيق هذا الهدف الجوهري، لاسيما اذا نجحنا في تحريض المثقفين واستنهاض قدراتهم في الكتابة والابتكار والتجديد، فالهدف الاول والاخير من كل هذه الجهود، هو رفع المستوى الثقافي في البلاد الاسلامية عموما.

من هنا الامام الشيرازي قائلا في هذا المجال: (ينبغي أن تشكّل لجان لتحريض المثقفين على التأليف، ليرتفع مستوى الثقافة في بلاد الإسلام).

كيف ندعم الثقافة؟

ويؤكد الامام الشيرازي في مشروعه الثقافي ايضا، على أهمية دعم الثقافة والمثقفين، على أن لا ينحصر ذلك في المسعى الحكومي فقط، ولابد للأثرياء ومن يتمكن من الإسهام في دعم الثقافة، ماديا ومعنويا، عليه ان يشارك في هذا المسعى، فالثقافة هي العامل الجوهري الأهم لتطور المجتمع، وبنائه بصورة معاصرة، وعندما يصبح المجتمع مثقفا، مفكرا، متطورا، فإن الربح المنتج من هذا التقدم، سوف يعود على عموم المجتمع.

اذن سوف يكون الرابح هنا كل من يسهم في دعم الثقافة والمثقفين، لأنك في هذه الحالة تبني مجتمعا متطورا، وعندما تعيش انت وعائلتك في مجتمع مثقف، لا شك أن حياتك سوف تكون جيدة ومريحة، وتنطوي على وسائل الترفيه والجمال والفائدة في الوقت نفسه، ولا شك أن قيم الخير سوف تعم أفضل، وتنتشر اكثر في المجتمع المثقف الواعي اكثر من سواه.

لذلك يؤكد الامام الشيرازي في مشروعه الثقافي، على أهمية دعم الثقافة بخطط مدروسة ومنتظمة، ومن بينها تشكيل اللجان التي تعمل على دعم الثقافة ماليا واقتصاديا، وكما نعلم ان العمود الفقري لإنجاح المشاريع الثقافية، يتمثل بالعمل الاقتصادي وتوافر الاموال المطلوبة، فضلا عن التخطيط السليم للتنفيذ.

لذا يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (من الضروري أن تشكّل لجان لأجل جمع المال والاتجار به، بهدف جعل الأرباح في التخفيف عن يُتم وسائل الثقافة مثلاً: الوضع الاقتصادي للأمة يقتضي أن تكون الكتب الدراسية في كل سنة ديناراً، بينما يكلف طبعها دينارين، فالربح يخصص لأجل دعم ذلك).

وأمر طبيعي، عندما تتوافر الاموال اللازمة للمشاريع الثقافية، التي تهدف الى نشر الفكر السليم، فإن قضية التوصيل تصبح ممكنة، عبر الوسائل المتاحة، إذ ركز الامام الشيرازي على اهمية استثمار الوسائل المتاحة كافة، كأجهزة التلفاز والشاشات الصغيرة الموجودة في كل بيت تقريبا، بل حتى المذياع ينبغي اعتماده في نشر الثقافة، كي يبقى الهدف الاساس، هو رفع المستوى الثقافي للمجتمع، وعندما يتم تحقيق هذا الهدف، يمكن أن نطمئن على أن المشروع الثقافي بلغ ضالته، وحقق الهدف المطلوب منه.

لهذا يؤكد الامام الشيرازي قائلا في هذا المجال: (كذلك ينبغي الاستفادة من سائر وسائل العلم والمعرفة، أمثال الراديوات والتلفزيونات ووسائل التوصيل وما أشبه، لرفع مستوى المسلمين ثقافياً).

اضف تعليق