q

كثيرة هي الافكار التي يسمع بها الناس، وهي تهتم بأمور عديدة، ابتداءً من الفرد، ثم المجتمع وحتى الامة، وهي تناقش الاخلاق والسلوك والنظام العام في الحياة. فهي تطرح البدائل، ضمن سجالات فكرية لا تبرح الاطار النظري ولا تلامس أرض الواقع. لذا نجد اننا أمام ظاهرة غريبة حقاً، فالافكار جميلة وكبيرة، يقابلها واقع مرير بمآسي كبيرة واسقاطات في اكثر من جانب من حياة الانسان والمجتمع. وهذا ما جعل الناس يملّون الافكار واصحابها، مهما كانت درجة ثقافتهم ومنزلتهم العلمية والاجتماعية، وهذا ما سبب حالة "أشبه بالقطيعة" بين الثقافة والمثقفين من جهة، وبين الناس او المجتمع من جهة أخرى.

وعندما نريد تسليط الضوء على جانب واحد من حياة المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في ذكرى وفاته، نرى من الجدير الاشارة الى هذه المعضلة والاشكالية الحضارية، فقد عُرف بريادته في مشاريع التغيير والاصلاح في المجالات كافة، وقدم أفكاراً ورؤى ثاقبة وشمولية عالجت مشاكل تعاني منها الامة، كما قدم حلولاً وأجوبة من شأنها ان تخرج الناس من الطريق المسدود، بيد أن كل هذا، لم يبق حبيس الكتب والمؤلفات التي فاقت اللألف عنوان، ولم تكن عبر المحاضرات والطرح النظري وحسب، إنما عضدها سماحته، بالتطبيق العملي، بل والتجربة الذاتية في حياته الشخصية.

فعندما كان سماحته يتحدث عن الاخلاق كأهم صفات القائد او من يريد التغيير والاصلاح، فانه يحرص على تطبيق هذه الوصية على نفسه، مثل الزهد والتواضع واحترام الآخرين. كما ان افكاراً حضارية من قبيل التنظيم وحرية العقيدة والتعبير والاكتفاء الذاتي والسعي لاجتثاث جذور التبعية للاجنبي في كل شيء. فانه كان يحرص على ان يكون أول من يعمل بكل ذلك، فكان مثالاً مثيراً للاعجاب لمرجع الدين المتواضع والزاهد وصاحب القلب الكبير الذي يسع الكبير والصغير، المرأة والرجل، وجميع شرائح المجتمع، فضلاً عن المعارضين لافكاره وحتى اعدائه.

وعندما كان يدعو الى الاكتفاء الذاتي وعدم الاعتماد على السلع والمنتجات القادمة من الشرق او الغرب، فانه كان يحرص على عدم استخدام هذه السلع، وكذلك الحال بالنسبة لسائر الصفات والخصال التي كان يدعو اليها لمن يريد تحقيق التغيير الحقيقي في اوساط شعبه وأمته.

والسؤال هنا؛ ما الذي كان يدفع الامام الراحل لأن يشدد على نفسه ليكون اول المطبقين لافكاره واطروحاته ونصائحه؟

انه – بالتأكيد- محاولة منه – قدس سره- لتعزيز احتمالات النجاح لتلكم الافكار والمشاريع، فالافكار والمؤلفات التي تحملها لم تكن تعني شيئاً لديه، ما لم تجد طريقها الى الواقع العملي بين جماهير الأمة.

نقل عنه نجله الفقيد، آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- أنه سأله ذات يوم عن سبب تأكيده على المستحبات والنوافل في العبادات، فقال: "أن لم ير الناس منّا النوافل والمستحبات فانهم لا يتوجهوا الى الواجبات...". وهذه الالتفاتة تذكرنا بما جاء عن رسول الله، صلى الله عليه وآله في عهد رواه أمير المؤمنين، عليه السلام، وهي بالحقيقة تجسيد للاقتداء والاسوة الحسنة، يقول النبي الأكرم عن الأمراء والحكام: "...وابدأ بالنصيحة لنفسك، وانظر في أمر خاصتك وفي معرفة ما عليك ولك، فليس أدل لامرئ على ما له عند الله من أعماله، ولا على ما له عند الناس من آثاره...". وقد جاءت هذه الرواية في كتاب "السبيل الى إنهاض المسلمين". ولشدّما كان يؤلم سماحته وجود الكم الهائل من الافكار والمشاريع تحملها لافتات عريضة وشعارات براقة بعيدة – على الاغلب- عن الواقع الذي تعيشه الشعوب.

ولمن يلاحظ حجم الاسقاطات والتداعيات في واقعنا العراقي المرير، يجد كيف ان الادعاءات الفارغة والوعود الكاذبة هي سيدة الموقف، بالرغم من استحقاقات كبيرة في الساحة من المفترض ان تكون عامل تفعيل لتلك الشعارات والوعود، ليس أقلها "التجربة الديمقراطية" وأجواء الانتخابات والمساعي المبذولة لتشكيل الوعي السياسي وخلق المشاركة السياسية لتقرير المصير ونقل العراق من خضم أمواج الفتن الى بر الأمان. مع ذلك، نجد عدم وجود أي إحراج او جفن يرف للكم الهائل من الشعارات التي تتحدث عن حقوق المواطن والقانون وغيرها، فيما يرى هذا المواطن أن أول من ينتهك هذه الحقوق والقوانين، هو من يرفعها ويتبجح بها وقت الانتخابات لتحقيق مكاسب سياسية.

وهذا يدعونا لان نستفيد من هذه التجربة الثرية في التجربة السياسية القائمة في العراق، فالامام الشيرازي الراحل كان من شأنه ان يقود شعوب بأكملها، بل الأمة جمعاء الى حيث تحقيق طموحاتها وانقاذها من واقعها السيئ، لحرصه على ضرورة التطبيق العملي ابتداءً من نفسه، بيد أن رياح القدر لم تكن مؤاتية للأمة لتحضى بهكذا فرصة تاريخية، بيد أن الايام أثبتت صحة العديد من الطروحات والافكار التي قدمها سماحته طيلة حياته، لسبب – من جملة اسباب- وهو أن الامام الراحل كان يبدأ من نفسه قبل الآخرين في إثبات صحّة وعملية تلك الافكار. أما في العراق، فامامنا فرصة كبيرة للنجاح والتقدم، لوجود الامكانات المادية والقدرات البشرية التي من شأنها ان تتحول الى قاعدة ضخمة وقوية للهرم القيادي الذي تسبق أفعاله أقواله.

اضف تعليق