q

استقينا عنوان هذا المقال من حديث نبينا الأكرم، صلى الله عليه وآله، حيث قال: " تعلموا العلم، فان تعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد..."، ومن المعروف أن ثمة فهم خاص للعلم، كما للجهاد، فللعلم منطلقاته وغاياته وسبل الوصول اليه، والجهاد ايضاً له سماته الخاصة، فهو يستدعي بذل الجهد العضلي في ميادين شتّى في حياة الانسان، منها ميدان المواجهة ويتجلّى في ميادين المواجهة العسكرية، فكيف اصبح البحث عن العلم - وهو جهد ذهني بامتياز- جهاداً؟.

شجرة العلم، عطاء بلا حدود

لقد اهتم رسول الله، صلى الله عليه وآله، بالعلم، الى جانب اهتمامه بالجهاد، لانه الشجرة المثمرة التي تقف على الارض الخصبة والطيبة وتعطي نتاجاً طيباً، فهو مكسب انساني كبير في الحياة يكشف حقائق الحياة والكون، ويمكن الانسان من العيش بسلام ورفاهية ونعمة وافرة، وهذا لن يكون ولا يدوم إلا بوجود حماة لهذا المكسب، من هنا كان اهتمام النبي الأكرم، منذ الايام الاولى، بالعلم، فهو استفاد من أسرى الحرب، لتقليل نسبة الأمية بين المسلمين، فغزوة بدر – مثلاً- التي أسر فيها المسلمون عدداً من المشركين، لم تبق، ولا حتى بقية الغزوات والحروب التي خاضها النبي والمسلمون، بيد أن القراءة والكتابة والعلوم بشكل عام هي التي تبقى وتتفاعل وتتزايد.

وهذا تحديداً يفسّر بقاء الاسلام كدين مستنداً على الثقلين؛ القرآن الكريم وأهل البيت، عليهم السلام، رغم التحديات الماحقة التي واجهها المؤمنون على طول الخط، لاسيما من الحكام والطغاة، حيث القمع والاضطهاد لكل معارض وتقييد حرية العقيدة والرأي. فقد كانت الحوزات العلمية منذ القرون الاولى من تاريخنا، تعجّ بالعلماء والفقهاء، وهم يتدارسون ويبحثون، ليس فقط في العلوم الدينية، وإنما في سائر العلوم، الطبيعية منها والانسانية، مثل الكيمياء والفلك والهندسة وغيرها، وها هي روائع المعمارية الاسلامية ماثلة الى يومنا هذا، وهي تعكس هندسة بناء متقنة، الى جانب ما توصل اليه العلماء من اكتشافات ومكتسبات فيما يتعلق بعلوم عديدة.

ان الساعات الطوال التي قضاها علماؤنا في الليل على نور الشمعة الصغيرة، في تلك الحجر الضيقة، او على نور بعض المصابيح الخافتة، كانت توازيها أيام وشهور وسنين يقضيها الحكام في مغامراتهم السياسية وبحثهم عن السلطة والحكم، وكان المسلمون هم من يدفعون ثمن هذه المغامرات. حتى ان كثير من هذه الحروب الطاحنة طالت مكتبات ثرية وضخمة، فأتت النيران على كتب علمية نفيسة ونادرة فحولتها الى رماد، كما حصل في هجوم صلاح الدين الايوبي على الدولة الفاطمية في مصر. فبدلاً من ان يخوض المسلمون جهاداً يعضد "جهاد العلم" ويعزز من مكانته ويصون العلم ويحفظ تراثه ورجالاته، فانه فتح النار عليه بعد ان وجده عقبة أمام هيمنة الحكام الطغاة.

وبالرغم مما نلاحظه من اقتصار طلب العلم على العلوم الدينية، وترحيل العلوم الطبيعية والانسانية من المساجد والحوزات الى أماكن أخرى، فان علماء الدين يجهدون أنفسهم لأن يقدموا مكتسبات علمية تنظم حياة الانسان لاسيما في المجال الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي. ولعل في طليعة العلماء الذين جددوا في مشروع التفقّه، الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي- قدس سره- الذي قدم موسوعة الفقه العظيمة، الى جانب سلسلة "الفقه" بعناوين "الفقه السياسة" و"الفقه الاقتصاد" و"الفقه الاجتماع"، واستمر حتى آخر ايام حياته يبحث مختلف شؤون الحياة برؤية "فقهية"، علماً أن الفقه من الناحية اللغوية، تعني "الفهم" الى جانب العلم بالشيء.

سلاح الوعي، الأقوى

يتردد على ألسن بعض طلبة الجامعة بأن "العلم سلاح..."، لاسيما لدى الطالبات، كونه نقيضاً للجهل والحرمان، ولكن في المنظور الحضاري، فان العلم بحد ذاته، لن يكون سلاحاً في المواجهة اذا لم يقترن بالوعي والمعرفة، فالعلم، أمور نظرية، بينما الوعي والمعرفة والفهم، أمور عملية على صلة بالواقع، ولو كان غير ذلك، لما انهزم الجيش الالماني الذي يمتلك قوة انتاجية فائقة في منشآته العسكرية، بحيث ينتج الطائرات والدبابات خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت الاعداد آنذاك بالآلاف، الى جانب تقنيات عسكرية متطورة قياساً بتلك الفترة، وكان متفوقاً على سائر بلاد الغرب في التقنية العسكرية، وحسب بعض المصادر فانه كاد أن يصل الى تقنية القنبلة الذرية.

إن الزعيم الالماني آنذاك (هتلر) كان يفكر بما تحمل اليه الايام من انتصارات في الميدان، بينما كان البريطانيين والاميركيين، يفكرون لما بعد مرحلة الحرب. فكانت اميركا تفكر بالحقبة التاريخية الجديدة التي تخرجها من كونها بلداً منعزلاً عن العالم، يعيش خلف المحيطات، الى بلد يقود العالم باقتصاده وثقافته وقدراته العسكرية، كذلك الحال بالنسبة لبريطانيا التي كانت تفكر مليّاً في بديل عن الحضور الاستعماري المباشر في دول لم تتخلّ عنها حتى اليوم، وما تزال تتلاعب في مصيرها ومقدراتها.

من هنا نفهم معنى الحديث الشريف: "مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء". فالشهداء الابطال يسقطون في أرض المعركة لمواجهة قوى الضلال والباطل، بيد أنها تستقي التخطيط والمنهج ممن يفكرون ويتدبرون الامور بدقة متناهية، ولا تصدر منهم كلمة إلا من خلال رؤية ثاقبة للحاضر والمستقبل، بمعنى أن العلماء تقع عليهم مسؤولية عظيمة في نشر الوعي والثقافة بين أوساط المجتمع، مع علمنا بأن المواجهة الشاملة التي نخوضها اليوم ليست مقتصرة بالمرة على الرصاص والقذائف او "سلاح الانتحار" الجديد، إنما، يشمل الاعلام والفكر والإشاعة، وغيرها من مفردات الحرب النفسية.

وهذا يفتح لنا باباً في الحديث عن دور العلم والمعرفة في رفع المعنويات، سواءً في حالة السلم او الحرب. فأن يعرف الانسان انه يمتلك مبادئ وقيم سامية وإرث حضاري عظيم عليه أن يحافظ عليه بما أوتي من قوة، يحتاج الى رصيد من العلم والفهم يمكنه من التحرك والتفاعل في الساحة، فتراه يتطوع ويتدرّب ويقاتل، أو ربما يساهم بماله وكلامه وأي مجهود آخر للحفاظ على هذه التركة العظيمة.

اضف تعليق