q

الصبر في المفهوم العام ببساطة هو حبس النفس ومنعها عن الجزع، وقد اثبت العلم الحديث أن للصبر فوائد جمة. أما الصبر في اللغةً، فهو يعني التجلُّد وحسن الاحتمال، والصَّبْرُ عن المحبوب، بمعنى حَبْسُ النفس عنه. و الصَّبْرُ على المكروه، أي احتماله من دون جزع. ولذلك يسمى شهر رمضان المبارك، فهو شهر الصوم، وسمّي بشهر الصَّبر، لما فيه من حَبْس النفس عن الشهوات. كما ورد ذلك في المعجم الوسيط.

ولا شك أن الانسان المؤمن يخوض حربا شرسة ضد النفس في شهر الصوم الذي يعيش المسلمون أجواءه هذه الايام، ومبعث هذه الحرب، أن النفس ميالة الى الدعة والراحة والحصول على رغباتها كافة، لاسيما الجسدية المدفوعة بالغرائز، لذلك يحتاج الانسان الى مقارعة جوارحه وحوّاسه بصورة حازمة وبصبر منقطع النظير حتى يتمكن من عبور هذا الشهر بنجاح وإيمان وزهد.

أما على الصعيد العلمي فإن الصبر يمثل حالة من القدرة على التحمل في ظل ظروف صعبة، ويمكن أن تعني المثابرة في مواجهة الاستفزاز، فالصبر هو الصمود المستمر على الأشياء المؤلمة نفسياً وجسديا ايضا، وتحملها بروح عالية ونفس طيبة دون إظهار ملامح الاستياء والانفعال على وجه الانسان او سلوكه او كلامه، بحيث لا تكون مشاعره وآلامه مرئية أو محسوسة من لدن الاخرين.

وقم تم تعريف الصبر في علم النفس التطوري وفي علم الأعصاب المعرفي، على أنه اتخاذ القرارات تجاه المشكلة، التي تنطوي على اختيار مكافأة صغيرة في الأجل القصير، أو مكافأة أكثر قيمة على المدى الطويل، فعندما يطرح هذا الاختيار على الإنسان، وجميع الحيوانات، وجد أنهم جميعاً يميلون إلى تفضيل المكافآت ذات المدى القصير على المكافآت التي يحصلون عليها في المدى الطويل، على الرغم من أن الفوائد في كثير من الأحيان تكون أكبر في المكافآت المرتبطة بالمدى الطويل.

لذلك يؤكد العلماء المعنيون على أهمية الصبر طويل المدى (الاستراتيجي)، فهو الصبر الذي يضاعف من فرص الانسان بالنجاح، ويؤكد هؤلاء العلماء ان المجتمعات المتقدمة هي التي فضَّلت الصبر على المدى الطويل، اكثر من الصبر القصير، لأن الأخير يقلّص من فرص النجاح والحصول على فوائد أكثر، ولعلنا نفهم أن حاصل مجموع الافراد الذين يعتمدون الصبر الطويل هم بالنتيجة يمثلون المجتمع كله.

من هنا تأتي أهمية الصبر في بناء الأفراد والمجتمعات، وتأتي ايضا أهمية الصيام، وتميّز شهر رمضان بهذه الخاصية التي تساعد الانسان والمجتمع، على تحقيق أفضل الاهداف واحسن الفرص التي تقوده نحو الصدارة من حيث التطور والاستقرار والتقدم، لهذا نلاحظ أن جميع الدول والمجتمعات المتقدمة تعتمد الصبر الطويل كي تحقق اهدافها التي تتعلق بالبناء والارتقاء والتطور.

وعندما نطرح التساؤل التالي، هل نحتاج كأفراد ومجتمع، لسياسة الصبر الطويل في البناء، فإننا سوف نجيب بالإيجاب، ونقول نعم نحن بحاجة كبيرة الى التأني العميق في التخطيط وفي التفكير والسلوك على مستوى الافراد صعودا الى الجماعات، ومن ثم المجتمع كله، لأننا من دون أن نعتمد الصبر بكل ما يعنيه من معنى، فإننا لا يمكن أن نحقق ما نصبو إليه.

وقد ورد في كتاب (تحف العقول)، حكمة عن الصبر لرسول الله صلى الله عليه وآله، إذ جاء فيها: (أما علامة الصابر فأربعة: الصبر على المكاره، والعزم في أعمال البر، والتواضع، والحلم). ولو أتينا لملاحظة هذه العلامات الأربع، فإننا يمكن أن نختصرها بالصبر كخصلة او صفة او ملَكة، تبني الانسان والمجتمع بناء مثاليا.

فالصبر على المكاره، تعني قدرة الانسان على مواجهة الصعاب بقلب مؤمن ونفس واثقة، لاسيما أن حياة الانسان قائمة على الصعوبات، وقد يتعرض في أية لحظة الى مخاطر غير محسوبة، فضلا عن أن مواجهتها تزيد من حنكة الفرد والجماعة، وتجعلهم من اهل الخبرة في التخطيط والتنمية المستمرة والمدروسة، لتطوير الذات والارتقاء بها.

أما العلامة الثانية، العزم في اعمال البر، فهي تأتي كتحصيل حاصل لطريقة حياة يعتمدها الانسان الصابر في تقديم الآخرين على نفسه، وتفضيلهم على ذاته، وفي أضعف الايمان، يساويهم في الاهمية مع نفسه، ويحتمل أخطاءهم ويسامحهم، ويتعامل معهم بصبر جميل، مع توافر العزم التام الذي يهدف الى تصحيح المسارات الخاطئة، بقلب سليم وفكر نقي، وكل هذا يتأتى من تجربة الانسان مع الصبر.

وفي العلامة الثالثة، التواضع، نلاحظ أن جميع الصابرين متواضعين، فهذه الصفة او الملَكة محسومة لهم، لأن الانسان الذي يمتلك قدرة التعامل مع الاخرين ومع القرارات والاشياء بصبر تام، فإنه لا شك سيكون انسانا متواضعا في تعامله مع الجميع، حتى لو امتلك مقومات القوة والسلطة والجاه والنفوذ وما شابه، لأن الصبر نفسه لا يسمح له بغير التواضع، على العكس من الانسان المتعجّل فهو غالبا ما يميل الى التهوّر والتسرع في كل شيء.

وأخيرا نلاحظ العلامة الرابعة الواردة في الحكمة النبوية الشريفة، عن الانسان الصابر وهي (الحلم)، وتعني الأناة والتروّي، وبذل أقصى ما يمكن من التعامل بهدوء وحكمة مع الآخرين، وهذه الصفات في الحقيقة هي صفات الانسان الناجح، وبالتالي هي صفات المجتمع القادر على البناء السليم للذات ولمؤسسات الدولة، نزولا الى المؤسسة الأصغر، ونعني بها العائلة، حيث الأب الذي يتميز بالحلم، سوف يحقق نتائج تربوية ايجابية لصالح افراد العائلة أكثر من غيره، كونه يضع الافعال والاقوال في مكانها بتأني وسلامة وهدوء، بعيدا عن تهوّر الآباء المتسرّعين في قراراتهم واقولهم وسلوكهم.

وهكذا نستخلص من العلامات الأربع للانسان الصابر، صفات او ملَكات يتميز بها هذا الانسان دون غيره، وهذا النوع من الناس يمثلون اللّبنة التي تبني المجتمع الصابر، الذي يتعامل بتفكير وتخطيط بعيد المدى مع حيثيات البناء، كي يصبح من المجتمعات والدول المتقدمة، ولا شك أن شهر رمضان المبارك، يمنح الانسان قدرة كبيرة على الصبر، والسيطرة على الذات والحواس، ويجعل شخصيته قوية صابرة متأنية أكثر من أية شخصية أخرى.

اضف تعليق