q
ملفات - شهر رمضان

مناخات التغيير في شهر الصوم

"بادرتُك بالأدب..."!

عندما يكون الحديث عن التغيير في الوقت الحاضر، تزدحم المسارات والآليات، نظراً للحاجة الماسّة الى هذا التغيير المتشعب من الفرد الى المجتمع، والمتفرع الى تغييرات سياسية وأخرى اقتصادية واجتماعية – تربوية وغير ذلك كثير، فنلاحظ تصدّر الحديث عن "الأخلاق" تارة، وعن "الثقافة والوعي" تارة اخرى، كما يتصدر الحديث عن الدين والامور المعنوية. كل يسعى لأن يكون هو حامل راية التغيير والتأثير في الواقع الذي يعجّ بالأخطاء والازمات.

فاذا كان التغيير مطلباً عاماً وعلى الاصعدة كافة على طول الخط، فانه يكون استحقاقاً أكيداً في شهر رمضان المبارك، حيث يكرّس هذا الشهر الكريم أجوائه الروحانية والعبادية لإنجاح مهمة التغيير، إن الصعيد الفردي أو الاجتماعي. ولكن..! من أين تكون البداية يا ترى...؟

في وصية مطولة يقدمها أمير المؤمنين، لابنه الحسن، عليهما السلام، يستهل نصيحته لابنه بأن "بادرتك بالأدب قبل ان يقسو قلبك ويشتغل لُبك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب...".

فلماذا "الأدب" وليس "الاخلاق" مثلاً؟

الاخلاق؛ جمعٌ لـ "خُلق"، وحسب "لسان العرب" فان الاخلاق هو "الدّين والطبع والسجية، وحقيقته أنه صورة الانسان الباطنية"، بمعنى أنها يمكن ان تأخذ الحالة السيئة والقبيحة، كما يمكن ان تأخذ الحالة الحسنة والايجابية، فهنالك خلق سيئ، كما هنالك خُلق حَسِن. بينما "الأدب" فانه أمر آخر. وعودة الى كتاب "لسان العرب"، فانه يعني "الدعاء" او الدعوة الى شيء، فانه "سُمي أدباً لأنه يأدب الناس – يدعوهم- الى المحامد وينهاهم عن المقابح"، و"الأدب: أدب النفس والدرس. والأدب: الظرف وحُسُن التناول". بمعنى أن الأدب والآداب لها اتجاه واحد صوب الفضائل والمكارم، وهي أدق تعبيراً للحالة الايجابية في التعامل وحسن السيرة والسلوك من "الأخلاق". ولو أن المفردة الأخيرة غلبت على الأدبيات والمباحث الاجتماعية والثقافية، لأنها تضم قواعد ونظم في السلوك تأخذ الحالتين: الايجابية والسلبية. وبالنتيجة فانها تندرج في خضم الصراع المستديم بين الخير والشر وبين الفضائل والرذائل، ليرى الانسان موقفه ومكانه الذي يختاره بنفسه في هذا المعترك.

وعندما يكون هذا هو خيار أمير المؤمنين في عملية التغيير التي يبدأها مع ابنه البكر، وهو أحد سيدي شباب أهل الجنة، وسبط النبي الخاتم، صلى الله عليه وآله، فهذا يعني أننا أمام مشروع تغييري شامل على أسس متينة تحمله أرضية صالحة. ولعل هذا يفسّر حرص الإمام في الاسراع بهذه الوصية، ويبدو أن تاريخها يعود الى أواخر أيام حياته الشريفة، فيقول: "أي بُني...! اني لما رأيتك قد بلغت سناً ورأيتني أزدد وهناً، بادرت بوصيتي إياك خصالاً منهن أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي اليك بما في نفسي، أو أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، او يسبقني اليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا فتكون كالصلد النفور، إنما قلب الحدث كالارض الخالية ما ألقي فيه من شيء قبلته...".

البناء قبل كل شيء

ربما يستعجل الكثير في أمر التغيير، لاسيما في أوساط الشبيبة وابناء الجيل الجديد من اليافعين ومن الجنسين، نظراً للسرعة الفائقة التي تتسم بها حياتنا، وأكثرها خطورةً؛ سرعة التأثير التي تطال هذه الشريحة الرقيقة، بفعل وسائل الاتصال المجانية ومعها القنوات الفضائية والقائمة تطول... فيكون التوجه فوراً، نحو النواهي والأوامر وتقديم المفردات الايجابية مثل؛ احترام الكبير والعطف على الصغير – مثلاً- والتعاون والصدق وغيرها، ثم النهي بشدّة عن المفردات التي تقف بالضدّ تماماً، مثل الكذب والأنانينة والكراهية وغيرها. والمشكلة الحقيقية القائمة في الوقت الحاضر، أن البعض – ولا نقول الغالبية- من الشباب ، ربما يجدون بعض المفردات السلبية، فائدة لهم، مثل "حب الأنا" و"الاستقلالية" وعدم الاكتراث بالآخرين وبذل الجهد من اجلهم.

وهذا يمثل – بالحقيقة- جرس انذار كبير لنا لأن ننتبه الى القاعدة الاساس في السلوك الانساني، هي التي يجب ان نوليها الأهمية البالغة كما فعل أمير المؤمنين مع ابنه، فانه أعرب عن خشيته من أن يكون قلبه "كالصعب النفور..."! هذه الخشية منه، عليه السلام، على ابنه، هي بالحقيقة خشية علينا جميعاً، ودعوة لأن تكون الاولوية للبناء على اساس متين من الآداب التي تنبت الثمار الحسنة، في الارض الخصبة، ومن القلوب البيضاء والنظيفة الموجودة دائماً في الاطفال والفتيان. ومن أجل ذلك يربط الامام بين القلب وبين الأدب فيقول، عليه السلام: "فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك...".

وقد جسّد الامام الحسن، عليه السلام، صورة من الثمار الطيبة لهذا الأدب في أيام شبابه عندما كان بصحبة أخيه الحسين، في مسجد رسول الله، وهناك لاحظا شيخاً كبيراً يتوضأ، وفي وضوئه بعض الخلل، فأرادا أن يوصلا اليه الرسالة، فكانت بالطريقة التالية:

تقدم الحسنان، عليهما السلام، نحو الشيخ، وطلبا منه ان يحكم بينهما، أيهما وضوئه أصحّ من الآخر، فعندما رأي الشيخ الطريقة الحسنة والصحيحة التي يتسابق اليها الحسنان في الوضوء، أدرك أن وضوئه يفتقد الى الاجزاء التي رآها في وضوء الحسنان، فشكرهما على الملاحظة الذكية والحكيمة.

لذا كانت الآداب في المعاشرة الزوجية، وفي الدراسة، وفي المعاملة، وحتى في العلاقة مع الله –تعالى- فهنالك آداب في مختلف اشكال الارتباط بالسماء، سواءً خلال قراءة القرآن الكريم، أو الدعاء والتهجّد والصلوات المندوبة، وايضاً في زيارة الأئمة والاولياء الصالحين. كلها مسارات في حياة الانسان ينظمها "الأدب" ويحملها القلب السليم والخصب الذي ينبت دائماً بالصفات والخصال الحميدة.

اضف تعليق