q
ثقافة وإعلام - أدب

الأثر الأدبي عند الأسرة القزوينية

السيد الميرزا صالح القزويني أنموذجا

لقد اشتهرت أسرة السيد القزويني بأنَّها أسرة علم وأدب، والمصنفات العلمية في الفقه وغيره، التي نسبت لهم، خير دليل على ذلك، ولم يتوقف اهتمامهم في الأدب على فنونه التي كُتِبت باللغة الفصيحة، إنّما كان للأدب الشعبي مكانة عند هذه الأسرة، فقد كان لنجل سيد صالح، وهو السيد...
بقلم: الدكتور كاظم عجيل الجبوري- تخصص: لغة عربية
جامعة القاسم الخضراء- كلية التربية البدنية وعلوم الرياضة

ذكرت كثيرٌ من المصادر أنَّ المكتبةَ العربيةَ لا تخلو من المخطوطات العلمية والأدبية التي تعود إلى الأسرة القزوينية،، وهذا يدلُّ على المكانة العلمية والأدبية لهذه الأسرة، التي جاءت مهاجرة من إيران بعد سقوط الدولة الصفوية واستقرت في الحلة، والنجف الأشرف، ويرجع نسبها إلى زيد الشهيد (ع).

لقد اشتهرت أسرة السيد القزويني بأنَّها أسرة علم وأدب، والمصنفات العلمية في الفقه وغيره، التي نسبت لهم، خير دليل على ذلك، ولم يتوقف اهتمامهم في الأدب على فنونه التي كُتِبت باللغة الفصيحة، إنّما كان للأدب الشعبي مكانة عند هذه الأسرة، فقد كان لنجل سيد صالح، وهو السيد أحمد، ديوان في الشعر الشعبي، تضمن الأغراض الشعرية كلها، كالغزل، والمدح، والفخر، وغيرها.

ويبدو أنَّهم توارثوا ذلك، لهذا نجد أنَّ العلم والأدب لم يقتصر على الذكور من هذه الأسرة، إنما امتد ليشمل الإناث أيضا، فقد ذكرت الأخبار أنَّ السيدة (أسماء)، وهي بنت السيد صالح، كان لها ديوان شعر، فلا غرابة إذن أن نجد رجلنا، وهو السيد صالح القزويني قد انماز بحبه للأدب، وأن يترك أثرا كبيرا في النهضة الأدبية في عصره، إذ تذكر الأخبار أنَّه كان يغدق بالعطاء على أدباء عصره؛ ليشجعهم على العطاء الأدبي لديهم، ويتسع أفقه عندهم.

ولا بدَّ من القول إنَّ الظروف السياسية التي تمر بها بلاد، يكون لها أثر فاعل في نمو شيء ما، أو في موت شيء ما، والأدب من الأشاء التي تتأثر في الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، فقد ينمو بها أو يموت، ولعل أهم جنبة يتأثر بها الأدب هي الجنبة السياسية، فنرى الأدب ينمو عند بعض الأدباء، فيكون اليد الضاربة ضد المستعمرين والفاسدين، وإن كان من جهة أخرى عونا لهم، وفي عصر السيد صالح القزويني، مرّ العراق بظروف سياسية صعبة، فقد تأججت الثورات ضد الوضع السياسي آنذاك، في معظم مدن العراق، وأريافه، فأخذت أصوات الناس تتعالى، وتشكو من أضرار تلك الثورات، فقد نتج منها خسائر بشرية ومادية، وفي قبال ذلك كانت أصوات الشعراء تتعالى أيضا، ضد الوضع السياسي المتردي، فصار للشعراء أهمية مرموقة في حياة المجتمع آنذاك، وكان لرجال أسرة القزاونة أثر كبير في الحياة الأدبية، إبّان الفترة التي عاشوا بها، فحدثنا اليعقوبي في (البابليات)، وهو الذي عاش في مدينة الحلة، وأدرك الرعيل الأول من رجال أسرة السيد القزويني قائلا: (ولقد نبغ في وسط حياة سيدنا المهدي أولادُه الأماثلُ، وقد ذاع لهم من الصيت في العلم والأدب والشهامة والشرف، ما لا يتسع المقامُ لذكر القليل منه، ولهم الأيادي البيض في نشر الأدب العربي، بما عقدوه من المحافل، وما بذلوه من الجوائز للشعراء، والأدباء).

الأثر الأدبي للسيد ميرزا صالح القزويني

أرى أنَّ السيد صالح القزويني قد ظلم نفسه أدبيا كثيرا؛ لأنّه لم يقف في اهتمامه بعلم الفقه والأصول فقط، إنّما نجده كثير الانشغال في إصلاح مؤلفات والده السيد مهدي، وفي الفُتيا، وفي فض النزاعات، لكنّه مع ذلك لم يتأخر عن ميدان الأدب، وآثاره الأدبية تدل على ذلك، نثرا وشعرا. أمّا في النثر، فقد عُثر له على رسالتين أدبيتين، الأولى بعثها إلى السيد (علي أفندي العمري)، مدّعي العموم في بغداد، جاء فيها: (احمد من حباك يا عليَّ القدرِ من نهجِ البلاغةِ، بالبيانِ البديعِ، واشكر من ولّاك جيدَ هذا النثرِ، تحلَّى بحسن الصياغة ودررِ الترصيع، ومَلَكَ رقاب بنات الأفكار الأبكار، فأنت أبو عذرِها، ومقتطفُ حلوِها ومرِها).

أمَّا الأخرى فكانت جوابا لمن عزّاه بوفاة أبيه السيد مهدي الحسيني القزويني، جاء فيها: (هُدِّمت أركان الشرع المبين، لكنَّ اللهَ – وله الحمد- جعلنا أسوةً لذوي المصاب، وقوّة يقتدي بنا أولى الألباب، لولا لذعةٌ يجدها الحميمُ لفراق الحميمِ، وإنَّ سيدَ الرسلِ الأوّاه الحليم، بكى على فقد ولدِهِ ابراهيم).

دلّت هاتان الرسالتان على القدرة الأدبية للسيد صالح القزويني؛ إذ ظهرتا بحلية فن من فنون البديع، وهو السجع، الذي لا تجد لبليغٍ كلاماً يخلو منه، كما لا تخلو منه سورة قرآنية، وإن قَصُرَت، ولا يستحسن هذا الفن البلاغي إلا إذا جاء خالياً من التكلف، والتصنع، إذن هو علامة من علامات التمكن اللغوي لهذا السيد، ثم أنّك تجدُ أنَّ الموسيقى الداخلية الناتجة من تناسق الألفاظ، قد طغت على هاتين الرسالتين، وأنت تقرأهما تشعر وكأنّك تقرأ شعرا لا نثرا، فهي قريبة جدا لما يطلقون عليه اليوم بـ(القصيدة النثرية)، بل إنّ أصحاب القصيدة النثرية لا يوجبون بها المحسنات اللفظية، وهو نوع من الحرية المعطاة للكاتب، بينما نجد السيد صالح لم تقيده هذه القيود، وأبحر بالمحسنات اللفظية، فجاد بها وأحسن.

أمّا في الشعر فقد كان للسيد صالح القزويني شاعرية فذة، ظهرت فيما وصل إلينا من شعره، وقد أشار إلى ذلك كل من كتب عنه، ومنهم الشيخ الطهراني في كتابه (نقباء البشر)، إذ قال: (كان بالإضافة إلى فقاهته هو من أجلاء الأدباء، شاعرا من أبرز شعراء عصره، وشعره رصين التركيب، قوي الديباجة).

أمَّا الحالة الأدبية للسيد صالح القزويني فقد ذكرها لنا الشيخ علي الخاقاني، فقال: (فكان القائد المحنك، والزعيم المحبوب، والخطيب المفوَّه، والشاعر المطبوع، وإنَّ الشعراء على مختلف بيئاتهم قصدوه ومدحوه).

نظم السيد القزويني في كثير من أغراض الشعر، لكنَّه اشتهر في الرثاء، وقد رثى الإمام الحسين عليه السلام بقصيدة ميمية، ورثى أيضا أخيه السيد جعفر مهدي الحسيني، فممَّا قاله في الإمام الحسين (ع):

أيُقْعِدُني عن خطَّـــةِ المجـــد لائمُ-----قصيرُ الخُطى من أقعدته اللوائمُ

سـأركبُـها مرهــوبةٌ سطــــواتُها-----تطــير خوافيــها بهــا والقوادِمُ

فيا خاطبَ العلياءِ، والموتُ دونَها-----رويدك قد قاومت من لا يُقاوَمُ

إلى أن قال:

أبا الحسن يُهَنِّيكَ ما أصبحوا به-----وإن كان للقتلى تُقام المآتمُ

وقال في رثاء أخيه السيد ميرزا جعفر مهدي:

خلَّياني وعبرتي خلَّياني-----ودعاني أبثُّ وجدي دعاني

يا خليليَّ بين جنبيَّ نارٌ-----لا يُطيق التعبيرُ عنها لساني

إنَّ في الدمع راحةٌ لكئيب-----فاعذراني به، ولا تعذلاني

نلحظ في القصيدتين أنَّ السيد صالح القزويني رحمه الله قد أجاد فيهما، من وجوه، منها: استعماله لحرف الروي (الميم، والنون)؛ وهما من حروف الذلاقة: «الراء، واللام، والميم، والنون» ومن خصائص هذه الأصوات قدرتها على الانطلاق من دون تعثر في تلفظها، ولمرونتها، وسهولة النطق بها، لهذا كثرت في أبنية الكلام، وما يسوغ كثرة استعمالها؛ أنَّها من الأصوات المجهورة، اذ لولا ذلك لفقدت اللغة أهم عنصر فيها، وهو تنغيمها، وموسيقاها، ورنينها الخاص، الذي يميز به الكلام من الصمت، وهذا الأمر يفسر وجود الائتلاف بين هذه الأصوات، وطبيعة التكوين الشعري، أو التجارب الشعرية المعبر عنها، وارتباطها بالفاصلة الموسيقية للقافية المتلاحمة، مع الحال النفسية للشاعر، وهو يعزف على انغام بنائه الموسيقي في الموضوعات: الرثاء، والنصرة، والعتاب، والفخر، والحماسة، والتعريض، والمعاناة الذاتية، التي تحتاج إلى النغم والرنين العاليين؛ لتشكل جزءا من الوحدة الموسيقية الشعرية، التي يتوقع السامع تكرارها، وهي أصوات ذات قيمة تعبيرية، تحقق التأثير المطلوب في السامع.

ووجه آخر نلمسه في القصيدة الأولى، هو صدق العاطفة فيها، نلحظ هذا في قوله:

أبا الحسن يُهَنِّيكَ ما أصبحوا به-----وإن كان للقتلى تُقام المآتمُ

يقول الدكتور محمد مهدي البصير: (التهنئة في هذا البيت، بدلا من التعزية بمصراع الأُباة الأحرار، والشهداء الأبطال فكرة أصيلة، تستحق الثناء والتقدير). فالسيد صالح أراد أن يتكلم بما تجول له نفسه، لما حدث في كربلاء، وهي حقيقة لا بدَّ أن نتعامل معها.

وفي قصديته الثانية، نراه يحاكي الشعر القديم في اسلوبه، وأنا أراها دعوة للرجوع إلى فنون الشعر القديم، وأساليبه، فهو يخاطب المثنى، كما فعل أمرؤ القيس في معلقته، إذ قال:

قفا نبكِ من ذِكرى حبيبٍ ومنزلِ-----بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخولِ فحَوْملِ

وكما فعل قال الشاعر الأموي سُوَيد بن كِراع العكلي:

فإن تزجراني يا بن عفان أنزجر-----وإن ترعياني أحمِ عرضًا ممنّعًا

وقد تنوعت تفسيرات الباحثين في مخاطبة المثنى في الشعر العربي، فذهب بعضهم إلى أنَّ الشاعر خاطب صاحبيه، وقيل: بل خاطب واحدًا وأخرج الكلام مخرج الخطاب مع الاثنين؛ لأن العرب من عادتهم إجراء خطاب الاثنين على الواحد والجمع، فمن ذلك قول الشاعر سويد بن كراع العكلي:

فإن تزجراني يا بن عفان أنزجر-----وإن ترعياني أحم عرضًا ممنّعًا

ورأي آخر يرى أنَّ الشاعر خاطب الواحد خطاب المثنى، وإنما فعلت العرب ذلك؛ لأن الرجل يكون أدنى أعوانه اثنين: راعي إبله وراعي غنمه، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى خطاب الاثنين على الواحد لمرون ألسنتهم عليه.

ورأي آخر يرى أنَّه يجوز أن يكون المراد به: قف قف، فإلحاق الألف أمارة دالة على أن المراد تكرير اللفظ كما قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُون} [المؤمنون: 99] المراد منه: أرجعني ارجعني ارجعني، جعلت الواو علمًا مشعرًا بأن المعنى تكرير اللفظ مرارًا.

ونلحظ أيضا أنَّ الشاعر السيد القزويني قد استعمل اسلوب النداء في قصيدته مع الحوار الذي أجراه مع صاحبيه، وهذا يدل على الألم النفسي، والضيق، الذي يعاني منه الشاعر، فالنداء في الشعر يوحي عن الحالة النفسية، والضيق النفسي الذي يعاني منه الشاعر.

بعد هذا يتَّضح أنَّ الأسر الحوزوية لم تصب اهتمامها على الدراسات الحوزوية فقط، إنّما لكثير منها أثر بارز في الأدب، على مر العصور التي عاشتها بأجيالها، وقد اتضحت المكانة الأدبية للأسرة القزوينية، متمثلة بالسيد ميرزا صالح القزويني.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق


التعليقات

علي الشكراوي
العراق
حياكم الله تعالى زميلنا العزيز الدكتور كاظم الجبوري على هذا المقال وجزيل الشكر والامتنان للشيخ مرتضى المحترم على دعمه واسناده2021-01-10