q

في خضم المعارك التي تخوضها الامة على اكثر من جبهة، دفاعاً عن الارض والعرض والمقدسات والقيم والمبادئ، من الطبيعي ان تبحث عن آليات الوصول النصر وتحقيق المكاسب السياسية في صراعها مع الانظمة الديكتاتورية الغاشمة، والمكاسب العسكرية في صراعها مع جماعات تكفيرية وارهابية، كالذي يخوضه العراقيون ضد تنظيم "داعش" في العراق.

هذا المطلب الحقّ، يستمد مصداقيته من تاريخ باهر وحافل بالانتصارات شهدته الامة في أوج عظمتها، حيث كان العالم مصدوم وغير قادر على استيعاب سر القوة التي حظي بها المسلمون وجعلتهم ينشرون الاسلام من أقاصي الشرق الى أقاصي الغرب، ولا تتمكن قوة من الوقوف بوجههم.

وبعد مضي قرون متطاولة على هذا السؤال المحيّر، توصل المفكرون والمؤرخون الغربيون الى حل اللغز...! وعرفوا أن قوة المسلمين آنذاك لم تكن من سنخ القوة التي كانت لدى الروم ولدى الفرس في فترة بزوغ الاسلام، وكانتا الدولتان العظميان في العالم، إنما هي متمثلة في القيم والمبادئ، وليس في العدّة والعدد والاموال. ومن أبرز هذه القيم؛ المصالح المشتركة التي كانت تجمع المسلمين في حزمة واحدة، إذ لم تكن هنالك مصالح شخصية او فئوية او قبلية، وهذه ايضاً مما توصل اليه الغربيون – مؤخراً طبعاً- بأن الحنكة والدراية النبوية، ذوبت كل القدرات الانسانية والعناوين والشرائح الاجتماعية في بوتقة واحدة لرص الصفوف أمام الاعداء.

وهو الشيء نفسه الذي كان سائداً في الدول الاخرى، وكانت امبراطوريات وممالك ذات امتداد تاريخي وعمق اجتماعي، لا هم لها إلا الوصول الى كرسي الحكم وتحقيق المصالح الخاصة، وهذا كان هدف كل فرد في الدولة، لاسيما المتنفذين والمقربين من قمة السلطة، وهذا بالطبع ينسحب على الدرجات الدنيا من الهرم القيادي ليصل الى القاعدة الجماهيرية التي كانت تخشى، هي الاخرى، على حياتها من نزوات ومغامرات الكبار. وكانت النتيجة الانهيار في الساعات الاولى أمام جيش المسلمين المتماسك الذي يتطلّع الى هدف واحد ومحدد، والكل يضحون من أجله بأموالهم وأنفسهم.

ومما يروى من معركة "اليرموك" الشهيرة بين الجيش الاسلامي والجيش البيزنطي، أنه بعد الهزائم المنكرة التي مُني بها الاخير أمام المسلمين، خاطبهم قائدهم لدى عودة فلولهم المهزومة متسائلاً: ألم تكونوا أكثر منهم؟ فلماذا هزمتهم أمامهم...؟ فجاء الجواب من أحد الحكماء في البلاط ذكر عدة اسباب لتفوق المسلمين ذكر منها: "لانهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتناصفون بينهم، ومن اجل أنّا نشرب الخمر ونزني ونركب الحرام وننقض العهد ونغصب ونظلم....".

وهنالك العديد من القصص والامثلة الرائعة عن دور التفاني وتذويب المصالح المتعددة والمختلفة في المصلحة العامة، في تحقيق النصر المؤزّر للمسلمين في الحروب الاولى التي خاضوها، وبها فتحوا البلدان ونشروا الاسلام، وأناروا للشعوب طريق الحياة السعيدة. بيد أن هذا المسلسل لم يستمر مع التاريخ طويلاً، إذ بدأت نيران الحروب تندلع داخل كيان الأمة، والسبب هو وجود العوامل المساعدة والكامنة في النفوس، ويمكن الاشارة الى أول حرب يشعلها من هذا النوع في تاريخ الاسلام، هي التي شنّها معاوية ضد الامة بعد أن تولّى أمير المؤمنين، عليه السلام، أمر الخلافة والحكم، وبعدها نشبت حرب أخرى منشأها الفكر المنحرف والرؤية الخاطئة الى الدين. فحرب صفين كانت تحت شعار "الحكم لمعاوية، لا للإمام علي عليه السلام،" فيما كانت حرب النهروان تحت شعار "الحكم لله لا للإمام علي، عليه السلام"!

منذ ذلك الحين، وحتى اليوم لم تشهد الأمة انتصاراً، كالذي كان تباهي به الأمم في عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، إنما تحولت الجهود والطاقات للاقتتال الداخلي والصراع على كرسي الحكم، فسالت من أجل ذلك الدماء وانتهكت الأعراض، كما حصل مع الحرب بين أخوين من ولد هارون العباسي؛ الأمين والمأمون. وإن لم تشهد الهزائم المنكرة من أعدائها، فانها فضلت الانقسام الى دويلات متفرقة في فترات زمنية من عمر الدولة العباسية.

والمفارقة التاريخية والحضارية هنا؛ أن نفس أولئك الذين كانوا يخافون ان يتخطفهم المسلمون من كل جانب في سالف الزمان، اصبحوا اليوم ظاهرين منتصرين، ليس فقط بقوتهم العسكرية والسياسية والمخابراتية وبأموالهم ولا حتى بعلومهم الحديثة، وإن كان كل ذلك له إسهام في ذلك، إنما كان الاشتراك في المصالح، وهذا ما اهتدى اليه الغربيون في مواجهتهم الاسلام، كدين وشعوب ومقدسات، وهذا الاشتراك في المصالح هو الذي مكنهم من الجلوس في مقر قيادة موحدة لقيادة الحروب والتشاور فيما بينهم لتحقيق النصر على عدوهم الأول والأخير، وفي خاتمة المطاف يكون تقسيم الغنائم والمكاسب كما حصل في ثمرة الحرب العالمية الاولى والمتمثلة بما يعرف بـ "اتفاقية سايكس بيكو" التي انتزعت البلاد الاسلامية من السلطة العثمانية و قسمتها الى دويلات صغيرة وبخطوط جغرافية عجيبة وغريبة، حصة للفرنسيين وحصة أخرى للبريطانيين.

والمفارقة الاخرى التي نعيشها، وهي تدعو للأسف، أننا في الوقت نواجه عدواً شرساً بأفكار خطيرة وقدرات غريبة من نوعها ومريبة، وامتدادات مشبوهة في العلاقات، اقليمياً ودولياً، فان البعض يفكر بمصالحه الخاصة، لحزبه او لأبناء مدينته او حتى لعائلته وشخصه...! ثم نسمع بالادّعاءات عبر وسائل الاعلام عن البحث عن النصر، او انه قريب، وهو كذلك بسواعد الابطال وعلو الهمم التي يحملها الشباب المجاهد والمضحي، وهذه فرصة –حقاً- ذهبية لا تعوض في أن يجتمع الجميع على نقطة واحدة تجتمع عندها كل المصالح التي يرسمها هذا وذاك وتحقيقها عند هذه النقطة، ما دامت مصالح مشروعة، تلتقي و طموحات الجماهير وتحقق الاهداف المنشودة بالسلام والتقدم.

اضف تعليق