q

تتميّز السياسة الخارجية الأميركية في مجال العلاقات مع الدول والجماعات بالحرص على اعتماد التوازن بين "الأضداد" في البلد نفسه، أو في الإقليم الجغرافي المشترك. ففي هذا الأسلوب، يمكن للولايات المتحدة أن تستفيد من حاجة كلّ طرف لدعمٍ أميركي ضدّ الآخر، ومن التنافس الذي يحصل بين الأطراف المتناقضة على خدمة المصالح الأميركية. أيضاً، فإنّ هذه السياسة تسمح لواشنطن بتهديد طرفٍ ما أو الضغط عليه من خلال الطرف المحلّي أو الإقليمي الآخر دون الحاجة لتورّط أميركي مباشر.

ولعلّ أمثلة كثيرة توضح هذه السياسة الأميركية التي يسير عليها صانعو القرار الأميركي، بغضِّ النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو عن الشخص الحاكم في "البيت الأبيض". فواشنطن مثلاً أقامت علاقاتٍ جيّدة جدّاً مع الصين في فترة "الحرب الباردة" لتعزيز الانقسام في "المعسكر الشيوعي" بين موسكو وبكين، ثمّ احتفظت بهذه العلاقات الخاصّة مع الصين رغم سقوط الاتحاد السوفييتي، ورغم التقارب الكبير الذي أقامه النظام الجديد في موسكو مع واشنطن والغرب في مطلع عقد التسعينات. بل إنّ العلاقة الأميركية الخاصّة مع الصين لم تكن على حساب علاقات واشنطن مع اليابان، رغم الصراع التاريخي بين اليابان والصين. وهكذا نجد سياسة أميركية في شرق آسيا مع عدّة دول متباينة، ومتصارعة أحياناً، لكن كلّها تنشد علاقة خاصّة جيّدة مع واشنطن، بما فيها دول كوريا الجنوبية والفيليبين وفيتنام وغيرها.

أيضاً، تظهر هذه السياسة الأميركية المستفيدة من العلاقات مع "الأضداد" في النهج الأميركي مع باكستان والهند، حيث لم تكن العلاقة التاريخية القويّة بين واشنطن وإسلام آباد مانعاً لتطوير وتحسين العلاقات الأميركية/الهندية. فلم تستبدل واشنطن العلاقة مع باكستان بعلاقات جيدة أقامتها مع الهند، بل يمكن القول إنّ واشنطن غضّت النّظر عن تمكّن البلدين من بناء السلاح النووي لتحقيق توازن تديره واشنطن. وربّما سنشهد قريباً حالة مشابهة من "التوازنات الأميركية" في منطقة الخليج العربي، بحيث تعزّز واشنطن علاقاتها العسكرية والأمنية مع دول "مجلس التعاون" في الوقت نفسه الذي تتحسّن فيه العلاقات الأميركية/الإيرانية، إضافةً إلى استمرار تركيا في عضوية "حلف الناتو"، رغم ما بين هذه الدول في هذا الإقليم الجغرافي من تباينات وصراعات أحياناً.

وعلى صعيد الدول العربية، نجد واشنطن تمارس سياسة "التوازن بين الأضداد" داخل بعض هذه الدول حتّى في مسائل محلّية داخلية. فمؤخّراً زار واشنطن رئيس إقليم كردستان في العراق، مسعود ملّا مصطفى بارزاني، من أجل الحصول على دعم أميركي لإعلان استقلال الإقليم عن العراق، وقبل زيارته شهدت واشنطن لقاءاتٍ مع عددٍ من الزعماء السياسيين العراقيين المنتمين إلى المناطق ذات الغالبية العربية السنّية، والذين يسعون إلى دعم أميركي أوسع لهم في داخل التركيبة السياسية العراقية. وقبل هذا وذاك، زار واشنطن في شهر نيسان/أبريل 2015 رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي لطلب مزيدٍ من السلاح والدعم المالي والسياسي. فالأطراف العراقية الثلاثة، المتباينة فيما بينها، كانت متّفقةً على الحاجة للعلاقة الخاصّة مع واشنطن! عِلماً أنّ واشنطن هي من أطلقت، بعد غزوها للعراق عام 2003، تعبير "المثلّث السنّي/الشيعي/الكردي"، وهي التي فكّكت الجيش العراقي الواحد، وهي التي أقامت حدود إقليم كردستان منذ العام 1991 تحت مبرّر "منطقة الحظر الجوي"، وهي التي دعا فيها نائب الرئيس جو بايدن، حينما كان عضواً في مجلس الشيوخ، إلى تقسيم العراق، وهذا ما يُطالب به الآن أيضاً بعض أعضاء الكونغرس الأميركي، ولعددٍ منهم علاقاتٌ خاصّة جداً مع إسرائيل و"اللوبي الصهيوني" في أميركا.

مثالٌ آخر عاشته السياسة الأميركية في مصر، قبل التغيير الذي حدث في تموز/يوليو 2013، حيث كانت السياسة الأميركية هناك تعتمد على "ثلاثيّة" مصرية متباينة لكن تربط أطرافها جميعاً علاقاتٌ خاصّة مع واشنطن. فواشنطن التي دعمت حكم "الاخوان المسلمين" في مصر وأقامت علاقات جيدة مع الرئيس محمد مرسي، كانت أيضاً تحتفظ بعلاقات قويّة جدّاً مع المؤسسة العسكرية المصرية منذ توقيع "معاهدات كامب ديفيد"، وكانت أيضاً تدعم بشكلٍ واسع "التيّار الليبرالي" في مصر (وفي مقدّمته البرادعي)، ومؤسّسات مدنية عديدة مناهضة لحكم "الأخوان" ولأيِّ دورٍ سياسي للمؤسّسة العسكرية. وكان من مصلحة واشنطن الحرص على التوازن في العلاقة مع هذه "الثلاثيّة" المصرية، واستخدام بعضها كأداة ضغط ضدّ الآخر في حال الاختلاف مع واشنطن، إضافةً إلى أنّ واقعاً سياسياً مصرياً قائماً على التناقضات لن يسمح بقيام دولة مصرية مركزية، ولا بالقدرة على التحرّر من شروط "المعاهدات" مع إسرائيل والولايات المتحدة، ولا طبعاً بالقدرة على لعب دورٍ إقليمي لا ترضى عنه واشنطن.

ولعلّ هذا ما يفسّر سبب غضب الإدارة الأميركية من التغيير الذي حصل في مصر بعد مظاهرات 30 يونيو 2013، والذي أدّى عملياً إلى سقوط "لعبة الثلاثية" وتمركز الحكم بيد قيادة المؤسسة العسكرية، وأنهى أيَّ دورٍ سياسي لجماعة "الاخوان المسلمين"، وهمّش أصوات الجماعات "الليبرالية" المدعومة من أميركا.

ونجد سياسة "التوازن بين الأضداد" تمارسها واشنطن أيضاً في كيفيّة التعامل مع ما يحدث في ليبيا، حيث تقيم الولايات المتحدة علاقاتٍ متوازنة مع الأطراف الليبية المتصارعة الآن، ومع القوى الإقليمية الداعمة لها. وربّما ستكون هكذا أيضاً السياسة الأميركية مع القوى اليمنية المتصارعة الآن، في حال جرى التوصّل لتسوية سياسة للأزمة اليمنية بعد مؤتمر جنيف القادم.

ذلك كلّه يحدث وواشنطن هي الآن طرَفٌ مباشر ومتدخّل في معظم القضايا والأزمات العربية الراهنة. فهي التي أوقفت منذ عقدين من الزمن مرجعية الأمم المتحدة للصراع العربي/الإسرائيلي، وجعلت من نفسها المرجعية والحَكَم بمصير القضية الفلسطينية، في حين أنّها طرفٌ مباشر داعم لإسرائيل في هذا الصراع، و"واشنطن" هي أيضاً عرّاب الاتفاقات والمعاهدات التي حصلت بين مصر والأردن ومنظمّة التحرير مع إسرائيل.

و"واشنطن" كانت قوةً عسكرية محتلّة في العراق، وهي الآن طرف مباشر في تقرير مصيره الأمني والسياسي من خلال المواجهة المفتوحة مع "داعش". وكانت "واشنطن" هي الطرف الحاسم والراعي لما حدث في السودان من انفصال جنوبه عن شماله، كما هي (واشنطن) طرفٌ مباشرٌ في ما حصل ويحصل بما يُسمّى بدول "الثورات العربية" من تطوّرات سياسية وأمنية، وبالجوار الإقليمي لهذه الدول.

وهناك سعيٌ محمومٌ الآن لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية، ممّا يُعيد معظم أوطانها إلى حال الوصاية الأجنبية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن الماضي. ويترافق مع مشاريع التدويل الجارية حالياً، وجود "واقع حال" إسرائيلي يقوم على سعيٍ متواصل منذ عقد الخمسينات لدعم وجود "دويلات" طائفية وإثنية في المنطقة العربية. وكلّ ذلك يحصل مع استخدام العديد من الجماعات ذات الأسماء الدينية أسلوب العنف المسلّح الذي يستبيح كلّ شيء ويؤدي إلى مزيدٍ من الفتن والتفتّت والصراعات الداخلية.

إنّ التدخل الدولي والإقليمي في شؤون البلاد العربية يتواصل في ظلّ مناخ تزداد فيه الطروحات الانقسامية داخل المجتمعات الوطنية العربية، فما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ لا عن خطايا حكومات وأنظمة فقط، بل هو مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويّتين العربية والوطنية، ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي، وفي التماشي مع رغبات "الخارج" وشروطه للدعم والمساندة!.

* مدير مركز الحوار العربي في واشنطن

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق