q
إن خلاصة مقاييس الجودة العالمية في المجال الجامعي، تتركّز في عاملٍ بارزٍ هو إنتاج المعرفة؛ ذلك أن المؤسساتِ الجامعيةَ الكبرى التي تخصَّص لها ميزانياتٌ هائلةٌ بالمليارات كجامعة هارفارد الأميركية، على سبيل المثال لا الحصر، وتحرز أعلى الرتب العالمية، تَعتبر من أهم وظائفها إنتاجَ المعرفة...

نعترف من البداية بأن جامعاتِنا العربيةَ تعيش أزمة مزمنة، لا تنفصل عن أزمة البيئة العربية الملوَّثة بفساد الأنظمة السياسية والأنساق الاجتماعية والتعليمية والتربوية؛ لأنها ما زالت تجترُّ النظام التقليدي النمطي والتلقيني في نظامها وأساليبها وطرق التدريس؛ مما أنتج أجيالا تفتقر إلى الابتكار والذكاء المهني والمعرفي، والتحليل المنطقي للمعارف. بل أصبحت هذه الأجيال المتراكمة عائقاً في طريق بناء الحياة العربية الجديدة؛ بمعنى أن الجامعات لم تعد مختبَراً لإنتاج وتفجير الذكاء، بقدر ما هي خلاصات للنمطية والبلادة المعرفية، التي لا تفهم متغيراتِ العصر وأسواقَ العمل المستقبلية.

ويمكن القول إن خروج كل الجامعات والمراكز البحثية العربية من الترتيب العالمي لأفضل 500 جامعة على مستوى العالم، هو أمرٌ طبيعيٌّ ومنطقيٌّ، في ظل تدنِّي مخصَّصات التعليم والبحث العلمي، واستمرار نزيف هجرة العقول العربية للخارج، وسيطرة الأجواء الطاردة للكفاءات والقدرات، مع انخفاض دخول الأساتذة، وعدم تقدير صناع القرار للعلم والعلماء، وغياب حريات البحث العلمي، الذي هو جزء أساسي من تقييد منظومة الحريات العامة في البلدان العربية. كما أن القطاع الخاص في العالم العربي لا يحتاج للبحث العلمي ولا يهتم به، لأنه يعتمد على التكنولوجيا المستوردة، بينما القطاع الخاص في أوروبا والدول المتقدمة هو الذي يمول البحث العلمي ويعتمد عليه. هذا إضافة إلى عدم الاهتمام بالتعليم ما قبل الجامعي، فهو في تدهور مستمر، وتدهوره يعني تدهور التعليم الجامعي، وتدني البحث العلمي. أضف لذلك ارتفاع نسبة الأمية في العالم العربي، وهو بمثابة خروج من دائرة التاريخ في المستقبل القريب، رغم أن الجامعات العربية غنيَّةٌ بالكوادر العلمية الراقية، في الداخل والخارج، لكن المشكلة أن لدينا منظومة إدارية فاشلة ما زالت تفكر بعقلية ثقافة القبيلة.

ورغم ما حققته بعض الجامعات العربية من تقدمٍ نِسبيٍّ في التصنيف الدولي، فإن الذي ينبغي ألا يغيب عنا هو أن هذه النتائج في مستواها العربي لا تعد مفاجأة بأي صورة من الصور، وما نشرته بعض الجهات الجادة من دراسات وبحوث عن قصور عموم الجامعات العربية في أدائها العلمي والبحثي والمجتمعي، لا يترك للمتابع مجالا للاستغراب عندما تطالعه أحدثُ التصنيفات العالمية للمؤسسات الجامعية.

إن خلاصة مقاييس الجودة العالمية في المجال الجامعي، تتركّز في عاملٍ بارزٍ هو إنتاج المعرفة؛ ذلك أن المؤسساتِ الجامعيةَ الكبرى التي تخصَّص لها ميزانياتٌ هائلةٌ بالمليارات كجامعة هارفارد الأميركية، على سبيل المثال لا الحصر، وتحرز أعلى الرتب العالمية، تَعتبر من أهم وظائفها إنتاجَ المعرفة، وتخريجَ نُخَب قيادية من أصحاب الكفاءة العقلية والنفسية، التي تخول لهم التفوق والنجاعة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية.

لقد ظل تعليمُنا تعليماً هجيناً، رغم أن الجميع ظل يؤكد، ومنذ مدة طويلة، أن التعليم في الوطن العربي في حاجة ماسة إلى إصلاح عميق جدّاً وجذري، على مستوى البنيات والمضامين والآفاق، وأنه لا يمكن إصلاح التعليم دون إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

والعراق نموذجٌ حيٌّ لتدهور التعليم وبنيته المادية والعلمية، وتدهور الجامعة وتقاليدها العلمية، لأن صانع القرار عندنا صار خارجَ تغطية الزمن، فكم من وزير أمّيٍّ قاد التعليم العالي بعقلية (البصقة المباركة) ؛ لأنه من صناعة المدارس الدينية المتشددة غير المعترف بها علميّاً، فأسس خراباً ما بعده خرابٌ في منظومة التعليم، وأزال العلم بكل تجلياته وجماله، واستبدله بدولة طالبان، مسترشداً بأفكار رجال الغيبيات، فأصبح العلم عند البعض هو القانون الأخير في اهتمامهم، وثقافة الاختلاط والملابس المحتشمة هي القانون الأول، فارتبطت المؤسسات التعليمية والعلمية بالمؤسسات والأحزاب الدينية الحاكمة، وتم تحويلها إلى ملكيات خاصة للكيانات الطائفية السياسية، وإلى مكان لممارسة الطقوس على نسق ما يجري في الشوارع والمساجد والجوامع العامة. وتحولت موضوعات الدراسات العليا إلى تبشير بالأموات، وساحة انتهازية لموضوعات تمجد الأحزاب وأبطال الجهاد، وشقاوة السياسة وفاسديها، بل أصبح تعيين الكادر التدريسي لا يتم إلا بتزكية من حزب ومسجد ومنظمة مجاهدة، وتحول قانون الاجتثاث في الجامعات إلى سلطة قوية تحت أساليب متنوعة، وذرائع كاذبة، كالعمر أو القتل بدم بارد، فانتهى عصر الكبار، وفلاسفة العلوم، إلى عصر الصبيان وفلاسفة التمليق والانتهازية ودعاة الجهل.

وما زاد الطينَ بِلّةً هو دخول المال الحرام إلى جامعاتنا، فتأسست إمبراطوريات لجامعات أهلية بمثابة “سوبرماركت” للبيع والشراء، معظمها تصنع البلادة لأجيالنا، وتقدم لهم شكولاتة لذيذة الطعم، لكنها عسيرة الهضم، لأن نتائج العلم لا تسر، ومخرجاتها تتلخص في: ادفع القسط المالي، ولك الحرية في الحضور والغياب والغش، وتوكل على الله فأنت ناجح يا بُنيّ المظلوم.

شاهدُ القول أنّ جامعاتِنا أصبحت أشبه بالمصانع القديمة التي بنيت في غير الموقع المناسب لها، والتي زادت إنتاجّها الكمّي، وقلّ إنتاجُها النوعي، من دون أن يطرأ عليها أي تغيير يذكر، بل زادت سوءاً في العلم والجودة والإبهار، هي اليوم تبكي رموزها الذهبية، وبريقهم العلمي اللامع، وتبكي خرّيجيها الذين أسسوا لنا الطرق الحديثة والجسور ذات الطابقين، ومصانع الإلكترونيات والأغذية، والمؤسسات المنضبطة، والمال الحلال، ومدارس الفكر والثقافة وسمفونيات الحياة.

نتذكر كم كان العراق جميلاً بالعلم، فيما نرى حال جامعاتنا اليوم وهي تبحث عن قيادة تعليمية واعية بثورة الذكاء، وصانع قرار سياسي يحمل كومبيوتراً رقميّاً، وليس قطعة قماش مكتوباً فيها أدعية للخلاص والحسد، وتعويذة (أم سبع عيون) زرقاء من صنع الأرجنتين!

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق