q

لم يكن إعلان الحرب على تنظيم داعش في المناطق التي خضعت لسيطرته أمراً سهلاً من دون إسناد القوات المسلحة بتشكيلات نظامية ذات عقيدة وطنية قادرة على مجابهة العدو وتأمين متطلباته من الدعم المعنوي الذي فقدته بسبب فساد بعض قياداته العسكرية، ومن هنا برزت أهمية الحشد الشعبي في إدارة الحرب، وكان لقياداته الدور الأبرز في المعركة ضد جماعات داعش.

وبالرغم من إمكانيات التسليح الضعيفة التي يمتلكها الحشد الشعبي بالمقارنة مع الدعم الذي يتلقاه داعش وطريقته الهمجية والوحشية التي سيطرت على الإعلام إلا إن الهزائم التي لحقته في معاركه مع الحشد الشعبي ساهمت في تقوية المؤسسة العسكرية الوطنية على حساب الصراع السياسي المتأثر بوضع الإقليم. فاللاتجانس السياسي في الإستراتيجية الأمنية له تأثير كبير على الأداء الامني للقوات المسلحة لاسيما إذا ما أخذنا بعين الإعتبار الصلاحيات اللامركزية للحكومات المحلية في هذا الجانب.

ورغم التقدم الميداني الذي حققته القوات المسلحة والحشد الشعبي إلا أن إستمرار هذا التقدم يبدو أنه قد إرتبط بخيارات الأمن القومي الإقليمي ورغبة أطراف المعادلة الأمنية في المنطقة، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية التي تتبنى قيادة تحالف جديد يضم القوى السنية في المنطقة من أجل تأمين أمنها من النفوذ الإيراني، وهذا ما تفسره إحتمالات إجتماع إثنين من قادة المنطقة فيها بالأيام القادمة وهما عبد الفتاح السيسي ورجب طيب أردوغان لبحث إمكانيات تشكيل تحالف إقليمي في المنطقة.

ومن هنا أصبح صانع القرار الأمني في العراق أمام خيارات معقدة متوزعة بين التعامل مع الإستحقاقات الوطنية التي تفرضها الأرض وما تفرضه توازنات القوى في المنطقة من خيارات على التحالف الدولي الذي يتحكم في السماء الوطنية.

تنافس مركب وخيارات معقدة

ليس من السهل على صانع القرار الأمني في العراق أن يدفع بالقوات المسلحة لمحاربة تنظيم داعش من دون وجود إرادة جماهيرية قادرة على دعم جهودها في ظل إستمرار اللاتجانس السياسي الذي يرمي بتعقيداته على قادة الحرب. فقد إقترنت إنتصارات القوات المسلحة في ديالى وصلاح الدين وجرف الصخر بالمشاركة التي أسندها الحشد الشعبي إليها، بيد إن هذه المعادلة مازالت تتأثر بالحسابات المنطقية للقوى الإقليمية المؤثرة في المشهد السياسي العراقي ولكيفية فهمهم حركة الجماعات الإجتماعية.

إن رؤية قادة الحشد الشعبي للتحالف الدولي قد ساهمت في تعقيد الموقف عند صانع القرار فعملية التقدير والحسابات الإستراتيجية لن تكون موجودة عندما يتعامل صانع القرار مع قيادة القوات المسلحة بكامل تشكيلاتها، وذلك لأن توازنات القوى الإقليمية تفرض إعتباراتها الإستراتيجية على خيارات صانع القرار في هذا الشأن. فضلاً عن ما يمتلكه التحالف الدولي من فرص تزيد من مكانته في المعارك ضد تنظيم داعش.

وبدلاً من أن تتقدم القوات المسلحة والحشد الشعبي بإتجاه مناطق جديدة أخرى أصبحت حركته متأثرة بحسابات التوازن في خيارات صانع القرار مما جعله يدور في حلقة مفرغة وفي مناطق محددة بسبب تأثر صانع القرار بهذه المعطيات. إذ يبدو أن صانع القرار ومنذ مؤتمر باريس قد فقد سيطرته على السماء لصالح التحالف الدولي، وأصبحت عملية الرصد وضرب الأهداف والتجمعات العسكرية لتنظيم داعش ممنوحة الى التحالف الدولي رغم وجود قيادة تنسيق مشتركة مع الطيران الجوي العراقي إلا أنها لاتمنع سوء التقدير وتكرار الخطأ الذي يرافق العمليات المشتركة بين الجو والأرض وهذا ما يجعل صانع القرار أمام خيارات مركبة من حيث التكوين ومتداخلة من حيث التعقيد.

وما قد لا يدركه صانع القرار أنه قد وضع نفسه في منطقة غير قادرة على تحديد الإختيار وحسم الخيار العسكري، فتحرير الارض يتطلب غطاء جوي قادر على التخفيف من أعباء البرية وتأمين حركة القوات، وهذه التركيبة غير متجانسة في الوقت الحاضر بسبب صعوبة التنسيق بين الحشد الشعبي وطيران التحالف الدولي في المناطق المشتركة للحرب.

المأزق الوطني وخيارات اللاعبين الإستراتيجيين

أمام صعوبة الخيارات المتاحة أمام صانع القرار فإن متطلبات البحث عن فرصة تاريخية في ضوء الصراع الإستراتيجي على الأرض تبدو في غاية التعقيد والتداخل، فخيارات التحالف الدولي قريبة المدى غير قادرة على حسم الموقف عسكرياً مع تنظيم داعش، بل أنها حددت قبل خوض الحرب ثلاث سنوات كحدود زمنية للقضاء على هذه الجماعات، وبدلاً من أن تمارس ضغوطها السياسية على الأطراف الإقليمية لإحتواء التنظيم بدأت تدعم إتجاهات طوئفة الصراع في المنطقة من خلال تأييد التحالف الذي قادته المملكة العربية السعودية ضد الحوثيين في اليمن وإعتبار وجودهم تهديداً للأمن القومي العربي، وهذا ما يفسر محاولات السعودية في ضرب التمدد المنافس لها قيمياً ومذهبياً.

وعلى مستوى الجماعات الإجتماعية في العراق فيبدو أن الولايات المتحدة ودول المنطقة تتجه خياراتها نحو تعزيز اللامركزية السياسية في السلطة من خلال مطالبة واشنطن حكومة بغداد بمزيد من الإصلاحات السياسية من خلال دعم الجماعات الإجتماعية في موضوع المساعدات العسكرية لتمكينها من ممارسة دور أكبر في رسم السياسة العامة، وبالتالي جعل صانع القرار أمام تعقيدات أكبر من حيث مستوى التوافق السياسي، وهذا فضلاً عن محاولة تمرير قانون الحرس الوطني لإضفاء الشرعية على الجماعات المسلحة وعلى عمليات التسليح المحتملة مستقبلاً.

وأمام هذه التداخلات يبدو أن خيارات اللاعبين بشكل خاص تتجه نحو زيادة التعقيدات الداخلية وإضعاف التجانس الإجتماعي داخل العراق، إذ أن سياسات التوحش التي تمارسها جماعات داعش في الأنبار والموصل تدفع نحو مزيد من التباعد بين المكونات الإجتماعية وتعيد رسم الحدود النفسية للشعور بالمواطنة حيال الهويات المنتشرة في العراق، وهذا ما يساعد في إضعاف إستمرار التماسك الإجتماعي وتحول الإدراك من العدو الخارجي الى المكون الداخل وبما يمكّن المعادلة الإقليمية من تأمين نفوذ أطراف جديدة أكثر تماسكاً، وبالتالي تحويل شكل التوازن الإقليمي من سوريا والعراق الى أطراف أكثر تأثيراً في التوازن الإقليمي.

وبالتالي فإن على صانع القرار العراقي توزيع خياراته العسكرية بين التحالف الدولي والقوات المسلحة العراقية في مناطق مختلفة لتكون قادرة على تحقيق أهداف متنوعة في آن واحد مع ترتيب الأولويات إستراتيجياً بحسب الإمكانيات، وهذا ما يجعل صانع القرار بعيداً عن التناقضات الخاصة بخياراته الإستراتيجية، وبما يؤمن عملية الإنتقال في الأهداف الأمنية.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق