q

محمد الأديب

 

الاهتمام بـعلم الدراسات المستقبلية حاجة حياتية وضرورة استراتيجية، وقد أصبح هذا العلم أحد العلوم المهمة، لما يوفره من رؤية شاملة للمستقبل تضع في حسابها معطيات التاريخ وحقائق العلوم والتجارب السابقة، وتستقرئ الحاضر للوصول إلى مستقبل أكثر ضماناً.

ودرجت دول العالم المتقدمة أن تستعين في انتاج الدراسات المستقبلية بجامعات كبرى، ومراكز بحوث ودراسات، وتخصيصات مالية كبيرة، وكل ذلك لتوفير دعم علمي متكامل لاستشراف المستقبل من خلال رسم صورة أقرب لما سيكون في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد.

يؤكد الباحثون أن الإنسان قادر على استباق الزمن، وإن المستقبل جزء لا يتجزأ من مقومات الحالة الإنسانية، وإن الإنسان قادر على التصرف في الحاضر على أساس الخبرة الماضية المدروسة، لكن المشكلة في التعامل مع المستقبل، بسبب عدم القدرة على معرفة ذلك المستقبل، فالماضي معلومة وقائعه، والحاضر شاخصة تفاصيله، بينما المستقبل يمثل المساحة الزمنية المجهولة تماماً.

وللتغلب على هذه المشكلة، سعى العقل البشري لتطوير مناهج تفكيره نحو حل هذه المعضلة، حتى لجأ إلى (المستقبلات البديلة) التي تقوم على التخلي عن فكرة معرفة المستقبل بالمعنى الدقيق، وأصبح التركيز على (معرفة الاحتمالات) التي ينطوي عليها تطور المعطيات الواقعية مستقبلاً، ثم كيفية التدخل المنظم في هذه الاحتمالات للوصول إلى ما يراد تحقيقه أو تقويض احتمالات الخسائر. ومع هذا، توالت الجهود باتجاه تطوير تقنيات منهجية تساعد على استشراف المستقبل برؤية أكثر دقة، لذلك فقد وضعت للدراسات المستقبلية مناهج وتقنيات.

يشير المستقبليون إلى أنه لا ينبغي التفكير بالحاضر فقط، فالماضي والحاضر هما وسيلتا تخطيط وعمل باتجاه المستقبل، فالماضي قد مضى والحاضر لحظة عابرة، وكل ما نفكر فيه أو نفعله اليوم سيؤثر في المستقبل.

ويبين الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قده) أن التطلع نحو المستقبليات من دوافع الإنسان الفطرية، ويقول (قده): (جُبل الناس على حب الاطلاع على ما يدور فيما حولهم، كما جبلوا على حب الاطلاع على أخبار الماضين واستشراف المستقبل. وإن واحدة من خصائص الأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) هي نظرتهم البعيدة وتفكيرهم العميق في عواقب الأمور، فلم يكتفوا (عليهم السلام) بالنظر إلى الواقع الذي كانوا يعيشونه، بل كانوا يأخذون المستقبل بنظر الاعتبار أيضاً).

لذلك فإن ارتباط المؤمن بـ(المستقبل) له عمق إيماني يعبق بأمل الخلاص من القهر والظلم والجور في دولة القسط والعدل التي سيقيمها صاحب الحدث الأعظم الذي ستشهده البشرية، فإن من الآيات الواردة في الإمام المهدي، قوله (عزوجل): (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون). يقول المرجع الديني السيد صادق الشيرازي (دام ظله): (لا تجد في القرآن الكريم كله آية مشابهة لهاتين الآيتين من هذه الجهة، حيث بلغ عدد أفعال المستقبل فيهما على قصرهما ستة أفعال، وهي "ونريد، أن نمن، ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم، ونري"، وما هذا التكرار في استعمال صيغة المستقبل إلا للتأكيد على أن هذا الفعل سيقع في المستقبل وأن وقته لم يحن بعد، فهو لم يصدر في الماضي ولا هو صادر في الحاضر، بل إنه سيصدر فيما يأتي من الزمان ويقع لاحقاً وفي المستقبل).

لم يذهب المتخصصون بعلم المستقبل إلى ادّعاء أن ما يصدر عنهم من آراء أو توقعات هي "نبوءات" وأحكام قاطعة، بل كانوا يدركون دائماً أن الذي يتوصلون إليه مجرد احتمالات أمكن الاستدلال عليها من خلال القراءة المنطقية لسير الأحداث، ومتابعة الأوضاع والظروف العامة المحيطة وانعكاسها على الأنشطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية المختلفة. فالباحث أو المتخصص في علم المستقبل يعيش بذهنه في ذلك المستقبل، وينظر إلى الغد على أنه زمن يمكن قراءة اتجاهاته الرئيسية، كما أن (المتخصص بالمستقبليات) يعمل جاهداً بأسلوب علمي من أجل اللحاق بالغد، والسيطرة عليه وتوجيهه قبل أن يفاجئه ذلك الغد بحقائقه ووقائعه فيتحكم في حياته ويسلبه حريته في التفكير والعمل. الأمر الذي يؤكد أهمية أن يمتلك الباحث بالمستقبليات قدرة فائقة على الإحاطة الشاملة بالأوضاع السائدة في المجتمع الذي يعيش فيه بالاستناد إلى دراسات ميدانية دقيقة، لا تقارب الظن والتخمين، وتحليل المعطيات في ضوء الاتجاهات المحلية والعالمية، لوضع الخطط الملائمة للتعامل مع (التوقعات) على المدى القريب والمدى البعيد.

ولذا يشير الإمام الشيرازي الراحل (أعلى الله درجاته) إلى أن عملية التنبؤ المستقبلي، تستوجب حشد كم كبير من المعلومات لرصد تحرك الأحداث بخطها البياني لغرض توقّع الحدث القادم أو الحالة المتوقعة مستقبلاً، ويجري ذلك باستخدام التقنيات المتطورة التي وفرتها مجالات التقدم في تقانة المعلومات إثر الثورة المعلوماتية.

ويؤكد (قده) أن (عملية التنبؤ تمكن الإنسان من تنظيم البحث العلمي بجوانبه المختلفة من اللازم والملزوم والملازمة)، لأن كل الأشياء تحف بها هذه الأمور الثلاثة، سواء التغيرات الطبيعية أو الفلكية، وقد أحال (قده) التنبؤ المستقبلي إلى أدوات الاستدلال المنطقي غير المباشر، مبيناً أهمية التنبؤ المستقبلي الذي غالباً ما تبنى عليه التصورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى التخطيط الاستراتيجي، برغم أن التنبؤ ليس قطعياً فيما يقود إليه من استدلال واستنتاج، لكنه في الغالب يصلح البناء عليه والتخطيط استناداً إليه.

وفي إشارة إلى المستقبل غير المنظور، والتفاؤل بالعهد المهدوي المنتظر، تناول الإمام الشيرازي (قده) في عدد من كتبه ظهور الإمام الحجة، الذي به يتحقق عهد القسط والعدل والحرية والسلام والرفاه. وقد فند (قده) اعتقاد البعض بأنه ليس علينا شيء من الإصلاح حتى يظهر الإمام الحجة، وبالتالي فإنه لا فائدة من أية عملية إصلاح حيث إن مصيرها سيكون الفشل، كما أنه لا فائدة من استكشاف المستقبل، لأن المستقبل سيصنعه الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف). يقول (قده): (إن معرفة المستقبل أمر واجب في الجملة، والتخطيط له واجب آخر، لأنهما مقدمة الواجب، وهي وإن لم تكن كذلك شرعاً إلا إنها لازمة عقلاً، وبها تتحقق أغراض المولى(عزوجل)، وإن لكل شيء أسباباً ظاهرة، وأسباباً خفيةً، وقد أمرنا بالتصدي للأسباب الظاهرة، وهذا التصدي لا يتوقف، فهو متواصل حاضراً ومستقبلاً، في زمن غيبة الإمام، وأيضاً بعد ظهوره المبارك، وإن الإنسان مسؤول عن أعمال المنكرات التي يرتكبها الآخرون، فعليه أن ينهى عن المنكر، ويحاول أن يجنب الآخرين عن الوقوع فيها).

اضف تعليق