q
يبدو أمرا لافتا انحسار قراءة الكتب التقليدية في الدول العربية، بسبب تقنيات النشر الرقمية، ونوافذ التواصل الافتراضي، فيما المجتمعات المحدِثة، تحرز أعلى المبيعات في المنشورات الورقية، على رغم سطوتها على وسائل النشر الالكترونية وانتشارها بين مواطنيها، بشكل واسع، تجربتي في الإقامة في أوربا لنحو العقدين...

يبدو أمرا لافتا انحسار قراءة الكتب التقليدية في الدول العربية، بسبب تقنيات النشر الرقمية، ونوافذ التواصل الافتراضي، فيما المجتمعات المحدِثة، تحرز أعلى المبيعات في المنشورات الورقية، على رغم سطوتها على وسائل النشر الالكترونية وانتشارها بين مواطنيها، بشكل واسع، تجربتي في الإقامة في أوربا لنحو العقدين، لا تؤشّر على همود المكتبات الشخصية للأفراد، فيما البيوت العراقية تقفر منها في الغالب، عدا الضآلة القليلة، وما يزيد من استفحال ذلك، ان الفرد العراقي يتّخذ من مواقع التواصل الاجتماعي ومجاميع التراسل الفوري، المعروفة بمحتواها الخبري الأفقي والفوقي، مصادرا لمعلوماته، من دون الاستطاعة في تنمية مستويات ثقافته وأنماط معرفياته وتحسين لغته، بصورة عمودية، كما يفعل الكتاب الورقي، أكثر من ذلك، فان الانترنت لم يعد المصدر لاقتناص المعلومة والمعرفة، فحسب، بل لاستنساخ أطاريح الماجستير والدكتوراه، حتى في المجالات العلمية، في ظل تغييب مؤسف للاستطلاعات الميدانية، والاختبارات الفعلية.

سرّ التعادل بين الكتاب التقليدي والمضمون المعرفي الرقمي، والقراءة الافتراضية، يكمن في البصيرة بأهمية المعرفة العميقة، وتوفير الدعم للمكتبات التقليدية، لكي تبقى المعادلة متوازنة، بين المعلومة المرئية السريعة، والأخرى الراسِخة.

تشير تقديرات سنوات مضت، الى ان معدل انتشار الكتاب في العراق والدول العربية ينخفض باستمرار، ذلك ان نصيب كل مليون فرد من الكتب المنشورة في العالم، لا يتجاوز الثلاثين كتابا، مقابل 584 كتابا لكل مليون أوروبي و212 لكل مليون أميركي، حسب تقرير منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة والتربية (اليونسكو).

لابد من الإقرار بان التدوينات الرقمية جعلت من الفرد، كاتبا وناشرا وقارئا في نفس الوقت، ومع هذا التعدّد في المهارات، اتّسعت المعرفة المدرِكة بشكل سطحي، لا نحو المسلك السحيق، لم يعد تسطير الكلمات، يحتاج الى الشجاعة، كما في السابق، ذلك ان دوافع بسيطة للتعبير، مع امتلاك نوافذ نشر في التواصل الاجتماعي والتراسل الفوري، يجعل منك كاتبا مشهورا، وهو ما يحصل الآن، اذ ينال مدونون وناشرون على قدر متواضع من الثقافة، من الشهرة والمال، ما لا يناله كتّاب مشهورون، ما يكشف عن انقلاب جذري في المفاهيم المتعلقة بمصادر الثقافة ومراجعها، وتصويباتها.

القراءة الرقمية، وفّرت جانبا أكبرا من الترفيه، بلو واللهو، على حساب المعرفة الجدية، وأصبح خيار اقتناء كتاب رقمي، او معرفيات عبر نوافذ الترابط الرقمية، لا يمثّل بشكل دقيق مفهوم الملكية الكاملة للمعرفة والدراية، والتي ارتبطت في الأسلوب الكلاسيكي المعروف، بالذات، قبل أي شيء آخر.

لازال الكثير من المثقفين العراقيين على الرغم من محاولاتهم تجربة الأساليب الرقمية في المطالعة والنشر، يتشبّثون بالكتاب التقليدي، والجريدة الورقية، التي توفّر الأناة، والعزلة، والتأمل، بل ان البعض منهم يصرّ على النشر فيها على رغم ان ما يقطفه من قرّاء ومتابعين، أقل بكثير من غنائم المتابعات والإعجابات، في المواقع والصحف الرقمية وصفحات التواصل الاجتماعي.

في كتاب "فن القراءة"، يكشف الفيلسوف الاسترالي دامون يونغ، الحائز على جائزة أوسكار، عن علاقة المطالعة بكيفيات التفكير، ويسوغ لماذا تبقي الروايات والأدبيات الورقية الكلاسيكية مصدرا أساسيا للدراية والخلق والمتعة واللذة المتفردة، التي لا يمكن الاستغناء عنها مطلقا، حتى في حالة تحوّل كل النصوص الى أرقام في المكتبات الافتراضية.

في دول أوربا الغربية، مثالا، لا حصرا، يُلاحظ بشكل بارز، أولئك الشغوفون بالقراءة وهم يحملون أجهزة "الايباد مِنِي"، ولوحيات الكتب الرقمية، في القطارات ومحطات المترو، والباصات، مبحلقين بتركيز على النصوص، ومدونين الملاحظات، في مخطوطات بألوان زاهية، لكن ذلك لم يمنع من وجود المكتبات الكلاسيكية في الأسواق، وإيثار الكثير من الناس لها.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق