q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

من دروس كورونا: هل يمارسُ الموت طبقيته في الإدراك البشري؟!

وهل موتي المباغت أكثر أهمية من موت الآخرين البطيء..؟!

إن أرقام الوفيات اليومية الحالية بسبب وباء كورونا باتت مفزعة بعد أن كانت مقلقة، ولكنها تبدو محدودة نسبياً بالمقايسة مع أرقام الوفيات والضحايا جراء سوء التغذية والحرمان والحروب والقمع السياسي وتفشي الأمراض المعدية بأنواعها في عالم الدول النامية. ومع ذلك فإن تلك الأوضاع المأساوية المستمرة...

إن أرقام الوفيات اليومية الحالية بسبب وباء كورونا باتت مفزعة بعد أن كانت مقلقة، ولكنها تبدو محدودة نسبياً بالمقايسة مع أرقام الوفيات والضحايا جراء سوء التغذية والحرمان والحروب والقمع السياسي وتفشي الأمراض المعدية بأنواعها في عالم الدول النامية. ومع ذلك فإن تلك الأوضاع المأساوية المستمرة والموثقة سنوياً منذ عقود طويلة، لم تستدعِ حالة الهلع والذعر والطوارئ التي يعيشها الوضع البشري الحالي بسبب كورونا.

إن هذه المقارنة بين الحالين لا تستهدف التقليل من جسامة الوباء الفيروسي الحالي وأهمية الإجراءات المتخذة عالمياً لاحتوائه، بل تراها إجراءات ضرورية وعقلانية ومجدية ولا غنى عنها، ولكنها تتساءل – من منظور نفسي- عن أسباب غياب الجدية والعقلانية نفسها في معالجة الوصمة المزمنة لموتِ/ قتلِ عشرات الملايين علناً في العصر الحديث، بسبب الفقر والأمراض والحروب، وبنسب مضاعفة للنسب الفيروسية الحالية..!.

فما بين العامين (1990- 2017)، ظلت النسبة الكبرى من وفيات الأطفال والمراهقين في جميع أنحاء العالم تتركز في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، وذلك ارتفاعاً من 71% إلى 82%.

وهذا يعني أن الفقر هو السبب الأول لوفيات الأطفال في العالم. فبسبب الجوع وحده يموت (9) ملايين من البشر كل عام، من بينهم (6) ملايين طفل في دون سن الخامسة. وبسبب الأمراض المُعدية (الإسهال والملاريا والحصبة وأمراض الجهاز التنفسي الحادة) يموت (11) مليون طفل دون سن الخامسة كل عام في البلدان النامية.

وفي الدول العشرة الأكثر تضرّراً من الحروب بسبب الجوع أو قلّة النظافة أو الافتقار إلى الرعاية الصحيّة أو الحرمان من المعونة (العراق وأفغانستان وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو الديموقراطية وسوريا واليمن ومالي ونيجيريا والصومال)، مات ما لا يقلّ عن (870) ألف رضيع وطفل بين عامي (2013 – 2017).

أما وفيات الحروب ففي سنة 2017 وحدها بلغ عددها الناجم بشكل مباشر عن الحروب الأهلية أو الحروب بين الدول (90) ألف شخص. وما بين العامين (2001- 2019) بلغ عدد القتلى الذين سقطوا بسبب الحروب التي شنتها الإدارة الأمريكية لـ"محاربة" الإرهاب (801) ألف إنسان، وبكلفة (4,6) ترليون دولار.

ولذلك، حينما أقارنُ بين موقف الحكومات في العالم من الوبائية البيولوجية الحالية لفيروس كورونا، وموقفها من الوبائية الاقتصادية والسياسية للفقر والجوع والحروب المستمرة دونما انقطاع طوال التاريخ الاجتماعي المعاصر على الأقل، لا أملك إلا أن أتساءل: «هل يمارس الموت طبقيته في الإدراك البشري؟».

وباستفهام أكثر تحديداً، إذا كان الموت هو حتمية مفروغ منها ولكن يراد تجنبها قدر الإمكان حينما يأتي مبكراً أو قبل أوانه بصيغة قتل بيولوجي (المرض) أو اجتماعي (الجوع والحرب)، فهل تتأرجح قيمته النفسية والأخلاقية في الإدراك البشري، صعوداً وهبوطاً، بحسب سياق التراتبيات الاجتماعية-الاقتصادية التي يحدث فيها؟!

وهل يكتسب الموت "قيمة" أهم وأعمق وأعلى حينما يطال مجتمعاتٍ أو نخباً سلطوية اعتادت "الرفعة" الطبقية والرفاه الاجتماعي، مما هو عليه في مجتمعات اعتادت "التهميش" الطبقي والبؤس الاجتماعي؟

وهل إن المتنعمين اقتصادياً والمتسلطين سياسياً (الأقلية المالكة لرأس المال الحاكم) لديهم حساسية إدراكية وأخلاقية عالية نحو موتهم الشخصي المباغت ما داموا مالكين لقدرات التأثير الإيجابي لوقف ذلك الموت، أكثر بمراحل من حساسيتهم نحو موت/ قتل الآخرين (الأكثرية الفاقدة المحكومة) البطيء والمتوقع، بعد أن جرى تجريدهم (أي الآخرين) من قدرات التحكم بمصائرهم؟

ولعل هذا ما يفسّر سلوك الكثير من الفئات الاجتماعية ما دون الوسطى في مناطق عديدة من العالم (ومنها العراق)، في إظهارهم لعدم اكتراث نسبي في اتخاذ إجراءات وقائية كافية ضد وباء كورونا، إذ يعبّر هذا البرود الانفعالي حيال احتمالية الموت عن نزعةٍ اكتئابية جماعية ناتجة عن فقدان هذه الفئات لقدرتها على التحكم بمسارات حياتها، فتسعى لتعويض ذلك الفقدان دفاعياً ولاشعورياً باستخدام آليات الإنكار أو الاستخفاف أو الاستعراض أو التعويل الغيبي على شفاعات "منقذة"..

إن النظام السيكو- أخلاقي لعالم القابضين على السلطة (في الغرب والشرق) يتبع نسقاً انتقائياً واضحاً حيال الموقف من الموت، محدداً بالآتي:

ما دام موتُ/ قتلُ الآخرين بتأثير الوبائية الاقتصادية والسياسية يحدث بعيداً عن عيوننا، بصمتٍ وبطءٍ وتريثٍ وتعتيمٍ وخارج التغطية الإعلامية الصورية المباشرة، فإننا لا ننكره بل "نكترث" به إلى حدٍ ما ولكن ليس إلى حد الفزع والاستنفار الستراتيجي الوقائي ضده، إذ نعدّهُ وصمة "لا مفرّ منها" في ضوء التركيبة الاقتصادية والثقافية "غير المتوازنة" لمجتمعات الكرة الأرضية عبر التاريخ، وفي ضوء كونه سبباً أساسياً أيضاً لاستمرار انتعاشنا الاقتصادي ورفاهنا الاجتماعي.

أما موتنا الشخصي المباغت بتأثير الوبائية البيولوجية، فيستدعي استنفاراً شاملاً إذ يحدث في عقر دارنا، مفاجئاً وسريعاً وغامضاً وغير مرئي ومكشوفاً للتغطية الإعلامية المباشرة، ما يعطيه بُعداً مأساوياً عميقاً يتطلب التحرك الطبي والوقائي والاقتصادي واللوجستي السريع لاحتوائه وإيقافه بل وتطوير ستراتيجيات وخططٍ للوقاية منه مستقبلاً.

فموتنا – قبل أوانه- غير مسموح به بيولوجياً، فيما موت/ قتل الآخرين -في كل أوان- مسموح به اجتماعياً ما دام يحدثُ هناك بعيداً.. في تلك البقعة الملتبسة إدراكياً وأخلاقياً حيث تتقاطع البيولوجيا مع السوسيولوجيا والايديولوجيا في نقطة سيكولوجية تجعل من الموت/ القتل قابلاً للتبرير والاستثمار وحتى الإدانة أحياناً، مثلما هو قابل للتجاهل والتغافل والإنكار أيضاً..!

تنويه: الأرقام والأحصائيات في هذا المنشور غايتها ليس التوثيق الدقيق وإنما إيصال فكرة محددة.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق