q

محمد العريان

 

نيويورك ــ منذ سنوات نشأتي كمراهق، كانت تباديل وتوافيق ومكائد السياسة الوطنية تفتنني دوما. والآن أجد نفسي أركز على اتجاهات سياسية أوسع نطاقا، والتي تساعد أيضاً في تفسير قضايا اقتصادية عالمية.

ومن هذه الاتجاهات ما يتجلى بوضوح من تشرذم سياسي واستقطاب في الديمقراطيات الغربية. فهناك حركات هامشية، بعضها يعمل ضمن هياكل سياسية راسخة ويسعى بعضها الآخر إلى خلق هياكل جديدة، تفرض الضغوط على الأحزاب التقليدية، وتجعل من الصعب عليها حشد مؤيديها، وفي بعض الحالات تلحق بها ضرراً حقيقيا. وفي محاولة يائسة لعدم الظهور بمظهر الضعف، أصبحت الأحزاب الراسخة متحفظة في التعاون مع الطرف الآخر.

وكانت نتيجة رفض العمل التعاوني بشأن قضايا رئيسية أن تأثرت السياسات الاقتصادية بشدة. إن صناعة السياسات التي كانت تصاغ ذات يوم من خلال مفاوضات تدار على مستوى الوسط السياسي، حيث كانت الديمقراطيات الغربية راسية منذ فترة طويلة، أصبحت تتشكل على نحو متزايد بفِعل قوى عنيدة تنتمي إلى أقصى اليسار واليمين.

ومن الواجب أن نقول إن هذا النهج أسفر في بعض الأحيان عن تطورات مفاجئة ــ طيبة أحياناً وسيئة في أحيان أخرى. ولكن النتيجة الإجمالية كانت الشلل السياسي، الذي عانت نتيجة له حتى العناصر الأساسية للإدارة الاقتصادية (مثل إقرار الميزانية في الولايات المتحدة بطريقة فعّالة). وغني عن القول إنه كلما تعاظمت تحديات الحكم والسياسة في الداخل، كلما أصبح التعاون الإقليمي والعالمي أكثر صعوبة.

ويُعَد حزب الشاي في الولايات المتحدة مثالاً واضحا. فبعد نجاحه على الساحة الوطنية في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، أصبح العديد من المشرعين الجمهوريين قلقين للغاية، حول تأمين "قاعدة" حزبهم لتأمين إعادة الانتخاب في المستقبل، حتى أنهم لم يعد بوسعهم أن يشعروا بالارتياح في ملاحقة ذلك النوع من التعاون الثنائي الحزبية والذي يؤسس لصنع السياسات الاقتصادية الفعّالة.

ولكن تأثير حزب الشاي لا ينتهي عند هذا الحد. فمن خلال مساهمته في تعطيل عمليات الحكومة الفيدرالية وإثارة تهديد العجز الفني عن السداد بشكل متكرر، هدد الحزب بتقويض التعافي الاقتصادي الهش بالفعل في الولايات المتحدة. ورغم أن الحركة تطورت ولم تعد تهدد باحتجاز الاقتصاد رهينة، فإنها لا تزال تساهم في إحداث الشلل السياسي العام.

ويبدو أن أوروبا تخطو الآن على مسار مماثل، حيث أصبحت الأحزاب غير التقليدية ــ وكثير منها تحركها قضية واحدة ــ متزايدة النفوذ. فالحركات مثل الجبهة الوطنية المناهضة للهجرة في فرنسا تجعل أحزاب التيار الرئيسي أكثر ميلاً إلى إرضاء المتطرفين من أجل الحفاظ على دعمهم.

ومخاوف هذه الأحزاب ليست غير عقلانية بالكامل، كما اكتشف حزب الباسوك اليساري الراسخ في اليونان، عندما ارتفع حزب سيريزا اليساري المتطرف المناهض للتقشف إلى النصر في يناير/كانون الثاني. ولكن هذا لا يغير حقيقة مفادها أن احتياج الأحزاب إلى معالجة مخاوفها الانتخابية يتسبب في إلحاق أضرار خطيرة بعملية صنع السياسات الوطنية.

الواقع أن أغلب الأحزاب الراسخة مشغولة للغاية بلعب أدوار دفاعية حتى أنها لم تعد تميل إلا قليلاً إلى المشاركة في ذلك النوع من التفكير الاستراتيجي التقدمي المطلوب لإعادة تنشيط نماذج النمو المنهكة، وإرساء الاستقرار المالي، وضمان مساهمة الإبداع التكنولوجي في تمكين الرخاء العريض القاعدة. ونتيجة لهذا فإن الاقتصادات الغربية تعمل بشكل مزمن عند مستويات أدنى من إمكاناتها ــ وتخاطر بتقويض قدراتها في المستقبل.

ولهذا السبب فإن أجيال المستقبل من المرجح أن تتذكر زمننا هذا بالفرص الاقتصادية الضائعة. فبدلاً من الاستسلام للاستقطاب والشلل، يتعين على صناع السياسات أن يعملوا على تعزيز الاستثمار في مشاريع البنية الأساسية المعززة للنمو والإنتاجية الممولة بأسعار فائدة منخفضة إلى حد غير عادي، وتوسيع نطاق إصلاحات سوق العمل، والعمل على معالجة فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع في الدخل والثروة والتي تعمل بشكل متزايد على الحد من القدرة على الوصول إلى الفرص الاقتصادية.

وعلى نحو مماثل، يتعين على صانعي السياسات أن يعملوا على تجديد الهياكل الضريبية غير المتماسكة وغير المتناسقة التي تشوبها استثناءات غير عادلة. وينبغي لهم أن يتابعوا إصلاح الهجرة لترميم النظام الذي يعاقب المواهب، ويشجع المخالفة، وكثيراً ما يؤدي إلى مأساة إنسانية، كما يتضح من آلاف المهاجرين الذين غرقوا في البحر الأبيض المتوسط في السنوات الأخيرة أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا.

على الرغم من الاستياء الواسع النطاق من المؤسسات السياسية في العديد من البلدان الغربية ــ انخفضت شعبية الكونجرس الأميركي على سبيل المثال إلى مستويات متدنية للغاية ــ فمن الصعب أن نرى ما الذي قد يكسر الجمود الحالي. فداخل الأحزاب الراسخة، تتسم القوى الداعية إلى التجديد بالضعف وعدم التكافؤ. أضف إلى هذا وسائل الإعلام المستقطبة وشبه القَبَلية بشكل متزايد، والتي قد تعمل على تضخيم الانقسامات في المجتمع، فيصبح التحول التعاوني محدوداً للغاية.

ومن جانبها، تناضل العديد من الأحزاب الهامشية، برغم شعبيتها المتزايدة، للوصول إلى السلطة، وهو التحدي الذي اتضح في الانتخابات البريطانية الأخيرة. أما تلك التي نجحت، مثل حزب سيريزا، فسرعان ما أحبطتها الأنظمة الشديدة الجمود حيث ينبغي لها أن تعمل ــ وهو الموقف الذي يصبح أشد صعوبة بسبب افتقار هذه الأحزاب إلى الخبرة في الحكم.

بمرور الوقت، سوف تتطور الأنظمة السياسية الغربية بحيث تلبي احتياجات اقتصاداتها. ولكن إلى أن يحدث ذلك فإن الغالبية العظمى من الشركات والأسر سوف تضطر إلى التأقلم مع النظم التي تقدم الأقل نسبياً لمساعدتها في تحقيق إمكاناتها، الأمر الذي يقودها إلى وضع غير موات في مواجهة المنافسين الذين يعملون في أنظمة أكثر دعما.

سوف يعوض الإبداع التكنولوجي عن الركود بعض الشيء، حيث يعمل على تمكين الأفراد والشركات من إدارة حياتهم وتوجيهها بشكل أكثر ذاتية، وهو ما من شأنه أن يخلق جيوباً من التميز والرفاهة. ولكن في حين يبدو هذا خبراً طيباً في نظر البعض، فإنه لا يكفي لوقف التفاوت المتعاظم في الدخل والثروة والفرصة ــ أو إطلاق العنان للرخاء الشامل الذي تستطيع الاقتصادات الغربية ــ بل ينبغي لها ــ أن تعمل على توليده.

* رئيس المستشارين الاقتصاديين في اليانز وعضو في اللجنة التنفيذية الدولية، كما يرأس مجلس التنمية العالمية للرئيس باراك أوباما

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق