q

منذ عقود يعيش العراقيون تحت وطأة انواع متعددة من العنف السياسي والاجتماعي، بنوعيه المادي والرمزي. وقد نشأت اجيال عديدة وهي تتنفس هذه الثقافة الموبوءة في فضاءات المجتمع العراقي.

انقضت تلك العقود بدورتها الجهنمية في العام 2003، وتوقع المتفائلون والحالمون ان هذا التاريخ سيشكل قطيعة لهم مع تلك الثقافة السابقة، لكن ذلك التفاؤل وذاك الحلم سرعان ماتلاشى تحت وطأة جديدة من دورة عنف لايتوقع لها ان تنتهي في المستقبل القريب.

اذا كانت دورة العنف الاولى قد احتكرتها السلطات المتعاقبة على حكم العراق، فان هذه الدورة الجديدة قد توزعت شراراتها بين الجميع لتشعل حرائقها الاجتماعية والدينية والمذهبية، مع مايضاف اليها من عنف متبادل بين السلطة والمجتمع بنوعيها المادي والرمزي.

واذا كانت اجيال من العراقيين رافقت صعود دورة العنف الاولى واكتووا بنيرانها، ثم غادروا الحياة، ومنهم من بلغ عمرا لايسمح له بممارسة العنف وايقاع الاذى بالآخرين، فان اجيالا من تلك الدورة، وهو الجيل الذي نشأ معظمه في الثمانينات ولاحقا بعدها في القرن الماضي، لازال يحمل نفس الثقافة ويعبر بها الى مابعد العام 2003.

ينضاف الى ذلك الجيل الذي ولد في ذاك العام وبعده، وهم الذين دخلوا مرحلة المراهقة العمرية او سيدخلون اليها، مع كل هذا الضجيج والصخب المتولد من حوادث الانفجارات والقتل والتفخيخ وذبح الكباش البشرية على مرأى حجر من الكاميرات الدائرة ليل نهار.

اذا كانت التغييرات التي تحدث في المجتمع كنتيجة طبيعية وضمن سياقات التغيير المجتمعي المتعارف عليها، تختزن الكثير من التوترات، واذا كانت عمليات التغيير تلك قد تعارف علم الاجتماع عليها عبر مفهوم (التعبئة الاجتماعية) بمعناها الواسع والتي تشير الى مجموعة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تحدث في البلدان النامية، والتي يتم على اثرها هدم بعض جوانب المجتمع القديم وبناء بعض جوانب مجتمع جديد، بما يتضمنه ذلك من تغيرات وتوترات قيمية وسلوكية واقتصادية واجتماعية تنجم عن زيادة عمليات الحراك الجغرافي (الهجرة من الريف الى المدن والمناطق الحضرية) والحراك الاجتماعي والمهني (تغيير محل الاقامة، تغيير نوع العمل، الانتقال من وضع اجتماعي الى اخر) لقطاعات واسعة من المواطنين. هذا الى جانب زيادة تعرضهم للمؤثرات الحديثة كأجهزة الاعلام وخلافها واحتكاكهم بها.

كيف سيكون لمثل هذه العمليات ان تحدث، ولهذه الاجيال ان تتناقل ثقافتها ومعارفها في مثل هذه الظروف وهذه التوترات التي بلغت حدودها القصوى من العنف والغاء الاخر؟

وهو جيل تسنى له الولوج الى البوابات الواسعة للتكنولوجيا الرقمية ووسائل الاتصال والتواصل، والتي يرى العديد من المختصين بوسائل الاعلام والعنف الذي يقدم من خلالها، انها تساهم في تكريس العنف والنظرة اللامبالية للحياة البشرية، حيث عرفت معظم الدراسات البحثية عنف وسائل الاعلام بانه تصوير الحدث المادي المعنوي الذي يؤذي او يقتل او يهدد بفعل ذلك.

فيما يقدم سينوريلي وغيرينير التعريف التالي لعنف وسائل الاعلام:

عادة مايعرف الفعل الارهابي باعتباره فعلا ينطوي على العنف. بوساطة الدول او بينها، او ضدها، او ضد سلطات اخرى من اجل نشر الخوف والتعبير عن موقف، وفي العادة يكون سياسيا.

يرتبط العنف في وسائل الاعلام ارتباطا وثيقا. انهما يصوران العلاقات الاجتماعية، واستخدام القوة للسيطرة، او الهيمنة او الاثارة او الابادة. بإظهار الذين يفعلون امرا منكرا من دون ان يتعرضوا لعواقب وخيمة اثر قيامهم بذلك. فان الاحداث الحقيقية او الوهمية والتي تحتوي على عنف قد تخيف الناس، وتثير المقاومة، والعدوان، والقمع، وتخلق شعورا بالقوة والضعف النسبيين بتصويرها للتسلسل الهرمي الاجتماعي.

وجد باحثون اخرون الامور التالية بشأن وسائل الاعلام والعنف:

1 – عرض وسائل الاعلام للعنف يعزز تقديرات الجمهور للجريمة والعنف.

2 – هناك علاقة كبيرة بين التعرض لبرامج اجرامية وقبول وحشية الشرطة والتحيز ضد الحريات المدنية.

3 – مشاهدة التلفزيون يمكن ان تكون ذات صلة بمشاعر القلق والخوف من الايذاء.

من المؤكد ان جيلا جديدا من العراقيين سينشأ وهو لايعرف شيئا عن التسامح والاعتراف بالآخر، و(لا يتخيل وجود شريك له في المجتمع يختلف عنه في المعتقد والرأي. وهذا راجع لنشوئهم في ظل احتراب طائفي ما أدى إلى انعزالهم داخل أسوار جماعاتهم الضيقة وفقدانهم أي إمكانية لتخيل وجود من هو مختلف عنهم).

ويرى العديد من الباحثين الاجتماعيين العراقيين انه و(منذ 12 سنة وليس هنالك سوى أخبار التفجيرات وانباء العنف، وصور القتل والدمار والخوف المنتشرة في كل مكان بل انها ازدادت وصارت لا تفارق الناس حتى في بيوتهم من خلال القنوات الفضائية غير المنضبطة، ومواقع التواصل الاجتماعي (الفايسبوك) مثلا التي صارت اقرب إلى الانسان من ظله وفيها يشاهد ويقرأ ما يستفزه على الطائفية والتشدد والتطرف، وفي الفيس بوك عوالم متجددة من البغضاء والكراهية والحقد ما يفيض عن حاجة اشرس الحيوانات واكثرها وحشية، وفيها من التحريض ما يفرغ القلب من العطف والرحمة).

صورة المستقبل الضبابية مع شدة قتامة الصورة الحالية في حاضرنا الراهن لاتترك مجالا للتفاؤل او الحلم بغد أفضل لهذه الاجيال الحاضرة.

اضف تعليق