q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

القلم السلاح الغائب

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه-

في وقت يغيب الكتاب عن اهتمام القراء، ويتراجع القلم الرصين والمفكر المسؤول، ويتوقف عن الابداع، وتهيمن الصورة والإثارة على العقول، علينا استذكار الكم الهائل من توصيات المرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي طاب ثراه بعدم التخلّي عن القلم، والتمسك به كسلاح للمواجهة، واتخاذه وسيلة للبناء الفكري...

مقدمة:

في وقت يغيب الكتاب عن اهتمام القراء، ويتراجع القلم الرصين والمفكر المسؤول، ويتوقف عن الابداع، وتهيمن الصورة والإثارة على العقول، علينا استذكار الكم الهائل من توصيات المرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي –طاب ثراه- بعدم التخلّي عن القلم، والتمسك به كسلاح للمواجهة، وايضاً اتخاذه خير وسيلة للبناء الثقافي والفكري. ومن بين هذه التوصيات في عديد محاضراته وكتبه، ما جاء في هذا المقطع الصوتي القصير حول أهمية القلم ودوره الاساس في نشر الوعي والاستنهاض للتغيير، ومواجهة التضليل وقلب الحقائق ايضاً، لنقرأ معاً، ثم نستمع لواحدة من تلك التوصيات في هذا المجال.

نحتاج خمسين مليون كتاب

"نحتاج نحن علماء الدين الى القلم، لانه الوسيلة التي استخدمها الاستعمار، كما ان هذا القلم هو الوسيلة التي بامكاننا ان نواجهه بها.

قال نابليون: اربعة أقلام ترهبني اكثر مما يرهبني مائة ألف سيف".

وهذا القلم هو الذي أطاح بالرئيس الاميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، عندما فضحه كاتب صحفي فيما يعرف بـ "ووترغيت"، وكشف انه كان يتجسس على الحزب الديمقراطي المنافس له.

ان كل فساد يصدر من الاقلام، كما أن كل صلاح يصدر من الاقلام ايضاً.

فربما يصعد خطيب مفوّه المنبر ويتحدث عن الفلسفة او قضايا هامة لعشرة آلاف انسان، فهل يبقى هذا الكلام في آذان المستعمين؟

وفي باكستان كان ثمة خطيب مفوّه ومعروف يدعى؛ رشيد ترابي، يستمع له حوالي نصف مليون انسان من خلال مكبرات الصوت، وقد التقيته أيام كنا في كربلاء المقدسة.

هذا الخطيب وغيره، عندما ينصرف عنه الناس وقد استحسنوا خطابته وموضوعاته، كم يحفظون في ذاكرتهم من هذه الموضوعات؟ ربما يحفظون بعض الافكار والقصص، ولكن هل يتمكنون من الاحتفاظ بكل تلك الموضوعات والافكار والقصص التي هي بالآلاف؟ أما القلم فانه يمثل شعاع ينير للبشرية على مدى عشرات القرون.

إن الذي عرّف ابن سينا ونصير الدين الطوسي وأشباههم الى العالم، هو القلم وحده، فيما كان المئات من العلماء منتشرون في زمان هؤلاء العظماء؟

وعليه، نحن نحتاج الى الاقلام بكثرة، فاذا نفترض ان خمسين شخصاً من المهتمين بالأمر يتولى كل واحد منهم تأليف مائة كتاب، وهو ليس برقم كبير، نكون قد ألفنا خمسة آلاف عنوان كتاب، ومن كل عنوان كتاب نطبع عشرة آلاف نسخة، نكون قد حصلنا على خمسين مليون نسخة كتاب بامكانها ان تحدث هزّة ثقافية وفكرية في العالم، لاسيما اذا اشتملت على مختلف القضايا والحقول".

إعادة هيبة القلم ودوره الى الواجهة الثقافية

اذا يغيب الكتاب عن اهتمام القراء، ويتحول الى تحفة فنية في رفوف المكتبات، وتتراجع القراءة أمام القراءة الالكترونية، وتتقدم الصورة والإثارة لتحتل الساحة الثقافية برمتها، علينا ان نتذكر دائماً أن البرامج التلفزيونية، وسيناريوهات الافلام السينمائية، وحتى الافكار التي تطرحها وسائل التواصل الاجتماعي، انما هي من نتاج الاقلام المبدعة التي تنظّر وتخطط في خضم تنافس محموم على كسب الرأي العام، او جذب اكبر قدر من المشاهدين والمتابعين، إنما الفارق في الخطاب و اسلوب الطرح.

فيما مضى من الزمن كان القلم والكتاب خير الجلساء لشريحة واسعة من محبي العلم والمعرفة ممن كانوا يمتلكون النفس الطويل للوصول الى الحقائق، وكان هذا يعبر عن مستوى التفكير الوعي آنذاك، فقد كانت الكتب والمجلات تتحدث عن العقيدة والاخلاق وقضايا الشعوب مثل؛ الحرية والتخلف والفقر، وكل ما يمكنها من مواجهة التحديات الخارجية والداخلية ايضاً، فكان القلم يقوم بدورين مختلفين في يخطين متوازيين؛ الاول: يدافع عن العقيدة والاخلاق امام حملات التجديف والطعن، من الجهات الخارجية وذيولها، وفي نفس الوقت طرح المفاهيم والقيم الايجابية في الاسلام، والتأكيد على أنها الأقرب الى فطرة الانسان وحياته. أما الدور الثاني: فهو يتعلق بالتعبئة الفكرية والثقافية لمواجهة الاطماع الخارجية والتي يسميها المرجع الشيرازي الراحل دائماً بقوى الاستعمار حتى السنوات الاخيرة من حياته، لمعرفته بالخلفية الذهنية للدول الكبرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة، والتي لن تبرح عن التفكير بنفس تلك العقلية الاستعمارية التي دخلت وخرجت بها من البلاد الاسلامية قبل اكثر من نصف قرن.

لذا فانه –رحمة الله عليه- يدعو الى استخدام نفس السلاح الذي استخدموه ضدنا لمواجهة الحملات التي يشنونها علينا، ولكن! اين يكون استخدام هذا السلاح غير المرئي بين الاساطيل البحرية، وطائرات التجسس، والقوات المدربة بأعلى المستويات، وايضاً بين المصانع الضخمة والتكنولوجيا المتطورة؟

هم لا يكتبون الكتب مثلنا، إنما يحركون اقلامهم لانتاج ثقافة مغايرة من خلال الافلام السينمائية والرسوم المتحركة (افلام الكارتون)، ومختلف اشكال العناصر الدعائية للترويج للاميركي البطل والقاهر دائماً.

ولعل ما نقله سماحته عن نابليون بانه يخشى من اربعة أقلام اكثر من مائة الف سيف، أو جندي، أنه الاخير يرى في هذه الاقلام ما يلهب الحماس في النفوس لمواجهة مئات الآلاف من الجنود الغزاة، وجعل الناس يضحون بانفسهم لمواجهة المحتل، ولعل هذا يفسر لنا دوافع نابليون لإصدار أول صحيفة عربية في الشرق الاوسط خلال الحملة الفرنسية على مصر في القرن السادس عشر.

ما حصل طيلة العقود الماضية أننا تخلينا عن القلم ومنتجاته من كتب ومجلات، واصدارات لاسباب وذرائع شتى، فيما بقي الآخرون (الاستعمار) متمسكون بهذا السلاح وقد طوروه ليظهر بأشكال جديدة ليدير إعلام الصورة والإثارة في الوقت الحاضر، وليسجل انتصارات باهرة في المجال الثقافي المفتوح عند معظم البلاد الاسلامية، إن لم نقل جميعها.

الكتابة هَمّ

يؤكد سماحة الامام الشيرازي على فقرة "الاهتمام" بأمر الكتابة والتأليف، وهذا يعني أن تكون الكتابة همّا يحمله صاحبها، لا ان يكون هواية للتسلية والترويح عن النفس، او يكون نتاج ضغوطات او احراجات الاصدقاء او حتى القادة، إنما تكون الكتابة عبارة عن ولادة ذاتية من أعماق نفس الكاتب، يعبر من خلالها عما يحمله من مشاعر وافكار يهديها لمجتمعه وأمته.

وهذا النوع من الاهتمام هو الذي يدفع الشريحة الواعية التي تحدث عنها سماحته –كمثال- بأن ينتج –مثلاً- خمسين شخصاً، خمسين مليون نسخة كتاب، علماً أن الامام الشيرازي أورد هذا المثال وهذا الرقم في سبعينات القرن الماضي، ولكن ارتفع مستوى هذا الطموح في التسعينات الى ثلاثة مليار نسخة كتاب، كما جاء في كتاب ألفه و نشره تحت عنوان "ثلاثة مليارات كتاب" صدر عام 1999، وقد قسم هذا الرقم على ثلاثة مهام: مليار كتاب للتوعية، ومليار كتاب "للرد على الاعتداءات التي توجه ضد المسلمين فكرياً بسبب الكتب ومختلف وسائل الأعلام"، والمليار الثالث لتعريف الاسلام الحقيقي للغرب، "حتى لا يتصوروا ـ كما يتصورون الآن ـ أن المسلمين قتلة متوحشون يجب إفناؤهم، حسب ما هو انطباعهم عن الحكومات الأموية والعباسية والعثمانية ومن إليهم".

هذا الهمّ يحتاج الى همّة وإرادة وعزيمة ليتحول الكاتب الواحد الى عشرة كتاب، والعشرة يتحولون مائة، لان الحمل ثقيل للغاية والمهمة أشبه ما تكون بالمستحيلة في الوقت الحاضر ولا يقوى عليها إلا اجتماع الأيدي (الاقلام) في مختلف الميادين الثقافية من؛ كتاب، وصحافة ورقية والكترونية، وبرامج تلفزيونية، فضلاً عن الاخذ بزمام المبادرة في ميدان التواصل الاجتماعي لنعيد الحياة الى القيم والمبادئ الباعثة على الحياة والسعادة، وهذه العودة هي التي تتكفل بسد كل الثغرات التي ينفذ منها الآخرون.

اضف تعليق