q

عندما تسقط مدينة عراقية كبيرة (او اغلبها)، بحجم محافظة "الانبار" بيد تنظيم "داعش"، بعد فترة من الانتصارات العسكرية للقوات الأمنية التي أجبرت التنظيم لاتخاذ وضع المدافع بدلا من الهجوم، فإنك بالتأكيد سترى الكثير من التوقعات والتحليلات، وكم من المعلومات والاستنتاجات حول مستقبل العراق ومعركة الطويلة ضد الإرهاب، لكن ان تشاهد وتسمع وتقرأ اختلافا في المواقع يصل حد التناقض، فهذا امر غريب حقا!.

التوقعات بعد "الرمادي" توسعت لتتصل بـ"تدمر" السورية، وهذا امر منطقي، باعتبار ان مساحة الأراضي التي باتت خاضعة بالكامل لسيطرة التنظيم قاربت على النصف من مساحة سوريا، وبإضافة الرمادي والموصل وبعض الجيوب الأخرى التي يسيطر عليها، فان المساحة قد تتجاوز حجم العراق او "بريطانيا العظمى"، كما ان التنظيم نجح، حتى الان، بربط الأجزاء التي استولى عليها بعضها بالبعض الاخر، مثلما فعل بربط بادية سوريا (بعد السيطرة على تدمر)، ببادية العراق (بعد سيطرته على الرمادي)، مع الاخذ بالاعتبار انه أساسا يسيطر على المعابر الحدودية التي تربط الجانب السوري بالعراقي، وتواجده في "دير الزور" و"الرقة" السورية تمتد الى العراق عبر "البو كمال" وعلى طول امتداد نهر الفرات داخل الأراضي العراقية.

لكن هذه التوقعات اختلفت مع بعضها الى درجة التناقض فيما بينها، ففي الوقت الذي يرى فيه بعض الخبراء ان "الأنبار ستبقى في يد داعش لفترات طويلة"، وان "سقوط الرمادي يستبعد تماما إمكانية شن عملية عسكرية قريبة في أشهر الصيف لاستعادة مدينة الموصل"، بعد تراجع القوات الأمنية في الرمادي، يخالفهم اخرون بتوقعات مغايرة تماما، ومنها ما قاله، الجنرال الأمريكي المتقاعد، مارك هارتلنغ، (الذي قاتل في العراق لسنوات)، ان "القوات العراقية لم تستسلم في الرمادي، وإنما كانت تواجه بعض المشاكل في المنطقة منذ فترة طويلة، وهي اليوم تتلقى تعزيزات وبالتالي نتوقع قيامها بهجوم مضاد يبدل الوضع خلال الأيام المقبلة"، اما على المستوى الرسمي، وخصوصا في الولايات المتحدة الامريكية، صاحبة فكرة "التحالف الدولي"، والمعنية رقم واحد بمكافحة الإرهاب في العراق وسوريا وباقي دول العالم، فإنها لم تخرج من دائرة "الافراط" و"التفريط"، ففي الوقت الذي قللت من أهمية الهزيمة واعتبرتها "انتكاسة تكتيكية"، على حد قول الرئيس الأمريكي "أوباما"، اعتبر ان الملوم في هذه الهزيمة هو "قوات الجيش العراقي قليلة التدريب والتنظيم"، إضافة الى ما اعلن عنه مسؤول اميركي كبير، ان الولايات المتحدة تعمل على "اعادة النظر" في استراتيجيتها في العراق، وهو ما يعني اعترافا ضمنيا بعدم نجاعة الخطوات السابقة التي قدمتها للحكومة العراقية كدعم واسناد في حملتها ضد التنظيمات المتطرفة.

طبعا ما تم ذكره هو مجرد امثلة على كم هائل من التناقضات اختصت بها الاحداث الأخيرة في مدينة الرمادي، لتوضيح فكرة الافراط والتفريط في التعاطي مع الاحداث العراقية التي ينبغي النظر اليها من زاوية الواقع العراقي الخاص وما يجري فيه، من دون مقارنتها بغيرها من الدول او الازمات التي تجري في بلدان الشرق الأوسط الا من حيث تبادل التأثير ضمن المشهد العام للتطرف وتمدد الحركات الإرهابية.

تركز الحديث عن اخفاق الحكومة العراقية والقوات الأمنية (تحديدا الجيش)، وان لها نصيب الأسد من حجم الانتكاسة الأخيرة، ومع ان هذا الكلام قد يكون صحيحا في بعض جوانبه لكنه قد لا يمثل كل الحقيقة، فالعراق بلد يختلف عن الكثير من البلدان الشرق أوسطية التي تعرضت الى هزات امنية رافقت الربيع العربي، فسوريا، على سبيل المثال، دمرت بالكامل ولم يبق فيها حجر على حجر، مع أكثر من 200 ألف من قتلى العنف، وملايين المهاجرين حول العالم، فيما قسم البلد الى أكثر من جهة وفصيل من دون ان تكون الغلبة لطرف على حساب الاخر، كل هذا جرى في اربع سنوات فقط، فما بالك بالعراق الذي دخل عقده الثاني وهو يكافح الإرهاب بمستوى لا يقل خطورة عما يجري في سوريا واليمن وليبيا، إضافة الى عمر الازمات السابقة التي عاشها في ظل حكم الاستبداد (نظام البعث)، والحروب والحصار الذي كلفه 3 عقود إضافية من الزمن.

الحقيقة ان من يريد تقييم ما يجري في العراق، عليه ان يقرأ ما مر به هذا البلد، سابقا وحاليا، قبل ان يدلي بدلوه، فمشكلتنا اننا نضع تقييمنا على الجميع في "سلة واحدة"، من دون التركيز على ان ما يمر به العراق حاليا، يمثل الحدود الفاصلة بين تحوله الى "دولة فاشلة" او "النجاح" في تجاوز الازمة كدولة موحدة وديمقراطية استطاعت ان تتجاوز ازماتها والمستنقع الذي غاصت فيه لسنوات عجاف.

اعتقد ان الخيرات التي تملكها الحكومة المركزية والقوات الأمنية والشعب العراقي محدودة للغاية، امام حجم التحدي الكبير في مكافحة الإرهاب، سيما وان العراق منهك امنيا وسياسيا واقتصاديا من طول المدة الزمنية التي تحملها من اجل العبور الى بر الأمان، ومع هذا ما زال يقاوم ويقاتل وينتصر، لأنه ببساطة ما زال يملك شعبا حيا يرفض الاستسلام، وبالتالي فان الأيام القادمة ستكون مليئة بالمفاجئات، قد يكون بعضها سارا والآخر ليس كذلك، لكن الانتصار الأخير سيكون من نصيب الشعب العراقي في نهاية المطاف، لأنه الوحيد القادر على احداث الفرق في التغيير، بعيدا عن الافراط والتفريط في حجم التوقعات والتكهنات بمستقبل العراق في قادم الأيام.

اضف تعليق