q

هل يمكن أن نتخيّل أمة حيّة من دون ثقافة فاعلة؟، وهل هناك شعوب تحصل على مكتسبات حقيقية من دون أن تكون واعية، وحاصلة على مرتبة عالية من التثقيف؟، ثم هل يكفي لشعب ما أن يكون غنيا أو ثريّا كي تكون حياته متطورة ومنسجمة مع روح العصر، أليس هناك دول وشعوب ثرية بسبب المواد الأولية الموجودة لديها كما هو الحال بالنسبة للنفط، الذي يعود عليها بأموال هائلة تصل مئات المليات من الدولارات، هل تكفي هذه الاموال الضخمة كي تصنع دولة متطورة وشعب واعٍ بعيدا عن الثقافة؟، في الحقيقة يجزم العلماء المعنيون، أن الثقافة هي السبب الأول الذي يصنع الشعوب المتطورة، وأن هناك استحالة تامة بين فقدان الثقافة وبين التطور، لدرجة أننا لا نخطئ اذا قلنا، أينما كانت الثقافة كان التقدم.

ولكن هذا الامر يتبع طبيعة المجتمع، فهناك مجتمع يتوق الى التطور، لذلك نراه باحثا عن الثقافة، ولاهثا خلفها، مقدما في هذا المسار كل ما يتطلبه الحصول على الثقافة اللازمة للتطور، لهذا يتفق العلماء والمختصون المعنيون على أن هناك إنسانا منتِجا وآخر مستهلِكا، فنجد أن الانسان الأول (المنتِج) يدعم ديمومة الحياة على نحو أفضل، فيما نلاحظ أن الانسان الثاني (المستهلِك) يشكّل ثقلا فائضا عليها، كذلك نلاحظ أن هناك ثقافة ذات نزعة استهلاكية، يديمها وينتمي إليها المثقفون الذين لا ينتجون، في حين نلاحظ وجود ثقافة مناقضة لها، تختلف عنها، إنها الثقافة المنتِجة، التي يدعمها وينتمي إليها المثقفون المنتِجون.

فهناك في الحقيقة ثقافتان مختلفتان قد تتشابهان بالاسم فقط، أما الجوهر لكل منهما فهو مناقض للآخر تماما، لأن التناقض بينهما في الاهداف والمضامين والافكار والنتائج كبير جدا، فالثقافة الاولى هي الثقافة المنتِجة تصنع الحياة وتمنحها مدادها وسبل التطور، والعيش بطريقة لائقة بكرامة الانسان، أما الثقافة النقيضة لها فهي الثقافة المستهلِكة التي تأكل من جرف الحياة وتُسهم في تدميرها، كما هو الحال مع الثقافات التي تحث على التطرف والكراهية وما شابه.

لذلك يتفق جميع العلماء وكل المعنيين بهذا الامر، على أن الأمم الحيّة هي تلك الامم التي تصنعها الثقافة الناجحة، وتجعل منها أمما منتجة، كون الثقافة التي تدعمها، هي فعلا ثقافة منتجة، يغذيها ويدعمها مثقفون منتجون، يحملون عقولا واعية وارادات قادرة على تحويل الفعل الثقافي الى منجز حاضر في حياة الامة على نحو دائم، لذلك يقودنا هذا الامر، الى التساؤل عن طبيعة ثقافتنا ومثقفينا، تُرى هل نستطيع أن نصف ثقافتنا بأنها من النوع المنتِج وهل ما بحوزة الشعب من عقول ومثقفين، يمكن أن ننعتهم بالمثقفين المنتجين؟.

إن حياتنا الواقعية التي نعيشها اليوم تؤكد وجود تخمة في الكم الثقافي على حساب النوع، ولا شك ان هذا الامر يشير الى وفرة في المثقفين المستهلكين لدينا، ولهذا يمكن أن نلاحظ أن المثقف الموجود لدينا ينحو الى الاجترار، ويفضل القوالب الجاهزة في الافكار والانشطة الاخرى التي تتداخل مع المنتج الثقافي أيا كان نوعه، نحن نفتقر في الغالب الى المثقف المنتِج المجدد الذي يُبعد نفسه عن الاتكال على الافكار والنظريات الوافدة، هذه ليست دعوة للانغلاق، لكنها في الوقت نفسه دعوة لاحترام الذات، وتحريك مكامن الابداع والاكتشاف والتجديد الذي تنطوي عليه جذورنا الثقافية حتما.

ولابد أن نشير بما لا يدع فرصة للمجاملة او التلميح، بأن مثقفينا اصبحوا من الكسل والخمول لدرجة أنهم عاجزون بصورة شبه تامة عن الابتكار والتجديد، لذا تحولت ثقافتنا الى حالة من السكون والخمول والاجترار الممل حقا، ولعل هذا الواقع الاستهلاكي المستديم، هو الذي رسخ مفهوم غريب عن الثقافة، عندما يجعل منها شيئا كماليا، وانها لا يمكن ان تصنع شعبا متقدما، فكما يرى كثيرون ان الصناعة هي التي توفر التطور للدولة، ولكن الصناعة نفسها بحاجة الى الثقافة حتما، وربما نتذكر كيف شاعت بين العراقيين مطبوعات (ترفيهية مسليّة)، في النصف الثاني من القرن الماضي، كلها كانت تفد إلينا من مصر وبيروت وسواهما، نحن نتذكر مثلا مجلة الموعد او الشبكة من مصر، واليقظة والنهضة والمجالس من دول الخليج، وغيرها من المطبوعات الاستهلاكية التي كانت تجد رواجا على حساب المطبوعات المنتجة، لقد تنامت لدينا الثقافة الاستهلاكية بسبب خمول المثقفين وفشلهم في خلق ثقافة منتجة، وانعكس هذا الامر على حركة الحياة العراقية عموما، وتراجع دور الثقافة في تطوير البنية الفكرية والسياسية والاقتصادية للعراقيين، لأننا كنا دائما في حالة انتظار وترقب للافكار الوافدة، غير مبالين بما يمكن أن نفعله ونصنعه في هذا المجال.

فكانت تلك الافكار الوافدة عندما تصل إلينا عبر قنوات لها اهدافها السياسية او الاقتصادية، كنا كمفكرين او مثقفين، نعيد ترتيبها في صيغة اجترار لا تنطوي على الابتكار الذاتي، فنبقى ندور في حلقة الخمول والركون الى الكسل الفكري، باعتمادنا على ما يرد إلينا، لذا نشأ لدينا المثقف الذي يتقن الاستهلاك ويفتقر الى نزعة التجديد، وطالما أن المثقفين هم وسيلة الثقافة وغايتها، فقد تنامت لدينا ايضا ثقافة خجول مترددة، تنحو الى الاستهلاك أكثر من سواه، فانحرفت بمساراتها في مسالك لا تصب في صالح الوعي العام، وهذا بدوره انعكس على المجتمع كله، فصار بدوره، مجتمعا استهلاكيا، قلما يسهم في الانتاج المادي السلعي للبلد.

وقد ظهرت في المرحلة الجديدة التي نحاول أن نعبرها بسلام وبدون خسائر، بوادر اختلاف وتضارب وتحريك لبرك الثقافة الساكنة والمستهلكة في آن، وظهر مثقفون يطرحون افكارهم عبر منافذ التوصيل الإلكترونية او الندوات والدوريات وسواها، لكن العبء لا يزال ثقيلا، بسبب الفصل النمطي الموروث بين الادب والثقافة والفكر من جهة، وبين التنامي الافقي في الوعي، والعجز عن الوصول الى أكبر عدد من العقول، لذا مطلوب تدعيم ثقافة الانتاج الفكري المتجدد، فهي في الحقيقة وحدها القادرة على صناعة امة متطورة وشعب غني ثقافيا وفكريا وماديا في الوقت نفسه.

اضف تعليق