q

عندما يجري الحديث عن أخطاء في المجتمع ذات صبغة معنوية تترك آثاراً مادية ملموسة، ينبري السؤال عن كيفية حصول ذلك؟

فبالإمكان تصور أن أخطاء في النظام الاقتصادي مثل الاحتكار والتلاعب بقانون العرض والطلب، يؤدي الى ارتفاع الاسعار. أو الاعتماد الكبير على قطاع التجارة والمصارف وأسواق البورصة، على حساب الانتاج الوطني، وعدم تشجيع الورش الصناعية الصغيرة والمتوسطة، يخلق البطالة والفقر. وهكذا الحال في أخطاء تحصل في مجال الصحة والتعليم وغيرها، بيد أن خطأ اجتماعياً مثل "الزنا"، يتسبب في "موت الفجأة"، فهو كلام بحاجة الى توضيح، فهذا السلوك الاخلاقي المنحرف الذي يشترك فيه الرجل والمرأة، يمثل عملاً فردياً، وإذا به يتسبب في انتشار الموت المفاجئ الذي نلاحظه كثيراً بعناوين: "الذبحة الصدرية"، أو "الجلطة الدماغية"، وهي ظواهر مرضية تتعلق بالصحة والطب.

كذلك الحال في سلوك البعض في المجتمع، طريق الكسب المادي غير المشروع، سواءً من خلال دائرته الحكومية او منصبه الحكومي او من خلال تجارته الحرة، وحتى من خلال متجره الصغير، من شأنه ان يكون أحد عوامل صناعة الأزمات في المجتمع، والتي ربما تأخذ مديات اقتصادية وأمنية وحتى سياسية.

وقبل هذا وذاك، لابد ان نتذكر دائماً الحقيقة التي طالما حاول الغرب تغييبها، وهي أن الانسان ليس بوسعه يوماً العيش وحده، ولا التفكير وحده. القفزات الطويلة في علوم شتى، واتساع نطاق الاعمال والمهن، وازدياد حاجات الانسان المادية منها والمعنوية، هي نفسها أجبرت مفكري الغرب على إعادة النظر فيما قيل بان "الانسان وحده المسؤول عن أفعاله". وعليه؛ فان عملية الكسب غير المشروع، لا يمكن تصورها محدودة في محيط صاحبها، حتى وإن اتسع نطاق هذه الظاهرة ليمثل شريحة واسعة في المجتمع، فلا يعني هذا انعدام آثارها السلبية، أو القول باستساغتها، لان ببساطة، يعود الأمر الى الفطرة الانسانية السليمة التي تجد في المال الحرام، انحرافاً عن الآداب والحقوق العامة.

لماذا الحرام وليس الحلال؟

انه سؤال بسيط يستبطن إجابات عديدة، فهنالك عوامل تدفع البعض الى اتباع هذا السلوك، علماً ان النظام الاسلامي قدم برنامجاً اقتصادياً متكاملاً يمكّن الجميع من الكسب الحلال والمشروع، بما يخدم صاحبه والآخرين، بل ويسهم في تقدم وتطور البلاد والعباد، ولمن يريد التفصيل مراجعة المؤلفات في هذا الجانب لكبار المفكرين والباحثين في هذا المجال. ومن هذه العوامل نسلط الضوء على عاملين فقط:

الاول: السرعة؛ حيث ان المعروف عن الكسب المشروع، يرتبط بالنظام الاجتماعي والاقتصادي العام، وهو مرتبط بدوره بمنظومة قيم وقوانين وشرائع؛ منها سماوية، ومنها وضعية، والالتزام بكل هذه الضوابط من شأنه تقييد حركة الكسب المادي، لاسيما أن المادة، أضحت في أعين الكثيرين، عصب الحياة. فالموظف – مثلاً- في دائرته او التاجر في السوق وهكذا... يريدان المزيد من التملّك في العقارات والامتيازات، والارصدة المالية في البنوك، وايضاً، اصحاب المهن الحرّة، بل والباعة المتجولين، فان حبّ المال، نزعة انسانية لاتحدّها المظاهر، لذا نلاحظ السعي المحموم للحصول على الارباح بأسرع وقت ممكن، وهذا يتمثل في "الرشوة" تارةً، أو في "الغش والتدليس" تارةً أخرى. وربما أعمال مبتكرة عديدة من شأنها تجاوز كل حدود القيم والالتزامات الاخلاقية والانسانية.

الثاني: عبادة الذات؛ وهي عبارة مستعارة، كناية عن الحب المفرط للذات الانسانية، وهي ظاهرة طالما سلّط الضوء عليه العلماء والمفكرون، على أنها تشكل إحدى المنزلقات لعديد السلوكيات الخاطئة، مثل الأنانية والنفاق والكذب والظلم، كل ذلك يبدأ من محيط ضيق في المجتمع، مثل الأسرة، ثم يتوسع الى المجتمع، ثم الامة بأكملها. هذا الحب المفرط للذات، يكون حاضراً وبقوة في عملية الكسب المادي غير المشروع، لاسيما اذا كان صاحبه، في موقع معرض للاهتزاز بفعل التنافس غير الشريف بين من هو أدنى، ومن هو أعلى منه، على تحقيق الاكثر من الاموال والسيارات الحديثة والعقارات المميزة وحتى الامتيازات.

وعندما يتحدث سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي في كتابه القيّم "الصياغة الجديدة" عن الآثار الحضارية لـ "الانضمام الى المجتمع"، ويبحث فيما يحصل عليه الانسان وما يفتقده من خلال هذه العملية الاجتماعية، فانه يجد في "الانضمام الاجتماعي نوعاً من التواضع، إذ معناه أنك تحب نفسك وتحب غيرك، بخلاف عدم الانضمام حيث يكون الانسان انانياً لا يحب إنسانية الغير وحياته، لذا تكون الأنانية نوعاً من العجب والوحشة".

هذه الحالة هي التي تخلق لنا التمزّق والتباعد بين النفوس والقلوب، رغم اقتراب الابدان ووجود الظاهر الجميل من تجمعات وأماكن عمل صاخبة بالموظفين، وأسواق تعجّ بالمتعاملين والتجار، يعرف بعضهم بعضاً ويتداولون أمورهم بسلاسة، وكأن شيئاً لم يكن، ولكن؛ يجد الجدّ لمجرد تعرّض المصلحة المادية للخطر، حينئذ يختلف الموقف تماماً.

من المستفيد؟

نقصد بهذا السؤال، أن الباحث عن الربح السريع وغير المشروع، لن يكون المستفيد دائماً، فهو ربما يحقق مكسباً في فترة معينة من الزمن، بيد أن المستفيد الحقيقي هو من بيده مقاليد السلطة، ومن يتحكم بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن خلالها يؤسس لمشاريعه ويمرر سياساته وبرامجه في شتى الميادين، ويطبق القاعدة الديكتاتورية "نفّذ ولا تناقش"، مستفيداً من حالة التمزق الحاصلة في المجتمع، وإلا اذا كان افراد المجتمع متقاربين قلباً وقالباً، وكل ينظر الى صاحبه على أنه المرآة، وأنه يشترك معه الحياة والمصير، بالقطع لن يتمكن أي حاكم مهما أوتي من قوة، من أن يجبر افراد هكذا مجتمع على الانصياع لأوامره وتنفيذ سياساته الفاشلة. بيد أنه بنفس السرعة التي يصل فيها البعض الى مبتغاهم من الاموال والامتيازات المغرية، فانه (الحاكم) يُسرع في تنفيذ مخططاته وما جاء من أجله الى الحكم، مستفيداً من حالة التمزق والتفكك في المجتمع، فالذي يستمرئ الحرام، لن يتورع عن ارتكاب الحرام، ومثالنا الأبرز والأقرب "صدام" وما قام به خلال سني حكمه.

من هنا؛ يكون بإمكان الحاكم – أي حاكم- من صناعة الأزمات بواسطة المجتمع المفكك، وبالاستفادة من افراد نفعيين ومصلحيين، كلٌ يفكر بنفسه، لا بغيره، وهذا يسهّل المهمة، ويجعل هؤلاء أدوات طيعة بيد الجهاز الحاكم ليكونوا عوامل لأزمات عديدة، مثل غلاء الاسعار او البطالة وحتى انعدام الخدمات، ومنها الكهرباء، بل وحتى الازمات الامنية والسياسية، فوجود هكذا ازمات تجعل المواطن يدور في دوامة مفرغة بحثاً عن حلول لمعالجة الاسعار المرتفعة او فرص العمل او كيفية توفير الكهرباء وحتى الماء الصالح للشرب، وكيف يؤمن على بيته وسيارته وأهله، باقتناء السلاح، وشبكة عنكبوتية واسعة من الازمات الشائكة. وتكون النتيجة؛ وجود شريحة من المنتفعين قادرين على إدارة حياتهم وتوفير مستلزمات الرفاهية لعوائلهم، فيما تبقى الشريحة الاخرى (الضحية) تتخبط في حر الصيف اللاهب، والحرمان من السكن اللائق وفرصة العمل والعيش الكريم.

وأرى من اللازم الاشارة الى أزمة أخرى لا تقل خطورة مما مرّ ذكره، وهي الازمة العقائدية في المجتمع، حيث باتت الشكوك تحوم حول كل شخص ملتزم بالاحكام والقيم في محيط عمله، بانه متهمٌ – بشكل او بآخر- بالتستر على ما يخفيه من نشاطات وأعمال غير مشروعة...! والمفارقة هنا؛ ان الدين والاخلاق، اللذين تعرضا للهجران والتنكّر، من البعض، يتحول الى أزمة بين افراد المجتمع، مع حصول بعض حالات التستّر بالظواهر الدينية لتحقيق المكاسب المادية، وهذه ظاهرة ليست وليدة اليوم، بقدر ما هي تعود الى الحالة الانسانية التي واكبت تاريخنا الاسلامي. فهنالك حكّام، وليس اشخاص عاديين، تستروا برداء "الخلافة"، وآخرون تستروا بالظواهر الدينية والمسمّيات والالقاب، وفعلوا من الآثام والانحرافات ما عجزت عنه الكتب التاريخية، مع كل ذلك، بقيّت القيم والمبادئ والفضائل والمكارم في حصن حصين، لذا نجد اليوم البعض الآخر في المجتمع، يبحث عن "اللقمة الحلال" والكسب المشروع الذي يضمن للإنسان والمجتمع، السلامة من الفتن والازمات.

اضف تعليق