q
هذه التجربة غير مقتصرة على أهل الكوفة قبل اربعة عشر قرناً من الزمن، إنما تمر بها الاجيال على مر التاريخ وصولاً الى الفترة الراهنة وما تعيشه الشعوب اليوم، فالتي تستفيد من حرية الرأي والتعبير والعقيدة، تلك التي تحترم رأيها وعقيدتها، وتلتزم بهما مهما كلف الثمن...

كان نبأ وفاة معاوية بالنسبة لأهل الكوفة بمنزلة زوال صخرة عن صدورهم منذ الهدنة التي توصل اليها مع الامام الحسن، عليه السلام، وما افرزته من اجراءات قمعية، فهم لم ينسوا ما تفوّه به معاوية من على منبر مسجد الكوفة؛ "قاتلتكم لأتأمر عليكم".

مشاعر عارمة بالهزيمة النفسية كانت تموج في نفوس القبائل بالكوفة ممن شارك افرادها في الحرب ضد الجيش الأموي بقيادة أمير المؤمنين، عليه السلام، وتحديداً حرب صفين، وهذه الهزيمة كانت مكملة للهزيمة العسكرية وخذلان القائد الشرعي والرسمي للدولة الاسلامية، واستمر الخذلان في إمامة الحسن المجتبى، لذا اراد الكوفيون ان يجربوا حظهم مع الامام الحسين، فاستفادوا من أجواء الحرية النسبية في الكوفة في ظل حكم الوالي؛ النعمان بن بشير المعروف بعدم رغبته بإراقة الدماء وممارسة القمع والتنكيل، فكانت ثمة "مرحلة برزخية" بين موت معاوية وانتهاء اجراءاته القمعية ضد اتباع أهل البيت، وبين تثبيت البديل الذي اصبح فيما بعد؛ يزيد، لذا كان الحديث عن الولاء للإمام الحسين في الكوفة مباحاً وحديث الساعة.

ومنذ وصول الامام الحسين مكة المكرمة، في الثالث من شهر شعبان سنة 60للهجرة، بدأت رسائل الوعد والرجاء تترى من أعيان وشخصيات الكوفة، وحتى من عامة الناس، حتى بلغت أثني عشر ألف رسالة، والجميع يهتف بكلمة واحدة أن "أقدم الينا، فليس علينا إمام"، لاسيما بعد معرفتهم برفض الإمام البيعة ليزيد والتي طلبها منه لأول مرة، والي المدينة سعيد بن العاص، علماً أن رسائل الولاء كانت تترى على الامام في مكة، من أمصار أخرى، مثل؛ البصرة والري واليمن، بيد أن المصادر التاريخية كانت تؤكد تميّز الكوفة دون غيرها في كثرة الرسائل والتفاعل الكبير من أهلها الذين كانوا يفدون الى مكة يومياً وهم يحملون هذه الرسائل.

الباحثون في شأن النهضة الحسينية يرون في خطاب أهل الكوفة الى الامام الحسين مضامين عدّة منها:

1- أنهم لا يرون في ولاة بني أمية الأهلية في الاتباع والصلاة خلفهم.

2- إجماعهم على إمامة الحسين بن علي.

3- يرون في الامام الحسين طوق النجاة من طغيان واضطهاد الأمويين.

4- انهم يصرحون بالطاعة والولاء للحسين فيما يذهب اليه وإن كلفهم ذلك أرواحهم.

هذه النوايا الطيبة في القلوب كانت بحاجة الى إرادة شجاعة للتنفيذ على ارض الواقع، بيد أن الذي حصل أن اهل الكوفة وجدوا الكفاية بهذا المقدار من الوريقات الموقعة من هذا أو ذاك، ولذا لم يستعجل الامام الحسين الرد عليهم حتى أواسط شهر شوال، أي بعد مضي اكثر من شهرين من وصول الرسائل، وحسب المصادر فان من أواخر من أتى الى الامام في مكة كلٌ من هاني بن هاني السبيعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي، وهما من رجال الكوفة، فسألهما عما يجري في الكوفة، وعمّن اجتمع على الدعوة اليه، فقالا: اجتمع على هذا الأمر أعيان الكوفة، وذكرا له أسماء منهم: شبث بن ربعي، وكان من فقهاء الكوفة، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، وعروة بن قيس وغيرهم.

وأول فشل في الاختبار سجله أهل الكوفة على أنفسهم؛ خشيتهم المريعة من تكرار الهزائم النفسية والعسكرية على يد أهل الشام، كما حصل في عهد معاوية، فقد عمل الجهاز الدعائي على ترويج هذه الصورة المزيفة في الاذهان، وأن معاوية مات، ولكن لم تمت سياسته ومنهجه الدموي، ومن أجل إضفاء المصداقية لهذه الصورة الذهنية، جاء القرار بتعيين عبيد الله بن زياد والياً على الكوفة بدلاً من النعمان، علماً أن ابن زياد كان والياً على البصرة، فأصرّ سرجون الرومي، مستشار الدولة الأموية على أن يتولى قيادة الكوفة مهما حصل لينجز المهمة الاولى وهي؛ تغيير قناعة الناس والتخلّي عن رأيهم وعقيدتهم بما يمتلك من تجربة في القمع والتنكيل والتصفية الجسدية دونما رحمة.

هذا المنهج الدموي الذي دأب عليه بن زياد لسنين طوال، لو اتبعه مسلم بن عقيل في الكوفة للحظة واحدة فقط، وانقضّ على بن زياد في دار هاني بن عروة في القصة المعروفة، لكان تغير مجرى الاحداث والتاريخ، ولكن ربيب أمير المؤمنين استذكر حديثاً لرسول الله يقول: "الايمان قيد الفتك" بمعنى أن المؤمن الحقيقي لا يفتك بأحد مهما كانت الاسباب، بمعنى أن مسلم بن عقيل كان حريصاً على إيمانه اكثر من حرصه على تحركاته السياسية وما يجب ان يكسبه ليبسط هيمنته على الكوفة.

ثم إن التاريخ لم ينقل لنا ما تحدث به مسلم بن عقيل لأهل الكوفة خلال أيام تواجده بينهم، وخلال اجتماع الآلاف حوله، فمن المؤكد أنه كان المرآة الشفافة لفكر وثقافة اهل البيت، وتحديداً الامام الحسين، فالطريقة التي تعامل بها في الكوفة، هي جزء لا يتجزأ من منهج الامام في نهضته الإصلاحية، فهو كان يروم الإصلاح في الانسان وليس في الحكم والسلطة.

وكانت النتيجة تلاشي جميع الوعود والمواثيق التي ضمتها آلاف الكتب خلال أيام قلائل لمجرد انتشار شبح الخوف من جيش الشام، وتذكير أهل الكوفة بعقدهم القديمة ومشاكلهم النفسية التي بزرت بقوة في عهد الامام علي، ثم في عهد ابنه الحسن المجتبى، ومن ثمّ تراجع اصحاب تلك الوعود بشكل غريب وتفرقهم عن مسلم بن عقيل.

إن الظروف السياسية التي مرّ بها أهل الكوفة بعد موت معاوية، كانت تمثل فرصة ذهبية واستثنائية من شأنها ان تشكل منعطفاً تاريخياً لصالحهم ولصالح الرسالة والامة، فقد وجدوا انفسهم بما لم يعهدوه من الحرية في التعبير عن آرائهم وما تكنه صدورهم، وما يحملون من طموحات وآمال، وكانت صحيحة، فهم لم يكذبوا عندما قالوا: "ليس علينا إمام"، أو "لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق"، فهم يعرفون من يكون الامام الحسين، عليه السلام؟ كما كانوا يعرفون حقيقة يزيد؟ ومن هو أبوه وجده؟

وهذه التجربة غير مقتصرة على أهل الكوفة قبل اربعة عشر قرناً من الزمن، إنما تمر بها الاجيال على مر التاريخ وصولاً الى الفترة الراهنة وما تعيشه الشعوب اليوم، فالتي تستفيد من حرية الرأي والتعبير والعقيدة، تلك التي تحترم رأيها وعقيدتها، وتلتزم بهما مهما كلف الثمن، وإلا فانها ستجبر على الالتزام بقواعد ونظم الديكتاتورية في مصادرتها للحريات الى درجة أن تكون راضية هي بنفسها بهذه المصادرة وتتقبل هذه الديكتاتورية عن طيب خاطر.

اضف تعليق