q

يرى الكثير من المراقبين ان كل ما يحدث من صراعات وحروب ومشكلات وأزمات في العالم والشرق الأوسط، هو صراع لأجل الحصول على مصادر الطاقة الأساسية ومنها الغاز الطبيعي الذي يشكل اليوم المادة الرئيسية للطاقة سواء من حيث كونه بديل أساسي في حال لتراجع احتياطي النفط عالمياً أو من حيث الطاقة النظيفة، ولهذا فإن السيطرة على مناطق الاحتياطي (الغازي) في العالم وكما تشير بعض المصادر يعتبر بالنسبة للقوى القديمة والحديثة أساس الصراع الدولي في تجلياته الإقليمية.

والغاز الطبيعي هو أحد مصادر الطاقة البديلة عن النفط (البترول)، وهو من المحروقات ذات الكفاءة العالية القليلة الكلفة والقليلة الانبعاثات الملوّثة للبيئة، ويعتبر من موارد الطاقة المهمّة للصناعات الكيماوية. ويقدّر الاحتياط العالمي «شبه المؤكد» من الغاز الطبيعي استنادًا لبعض المصادر، وفق إحصائيات العام 2013 بنحو 190 تريليون م3. ويقدّر المصروف السنوي بأكثر من 3.3 تريليونات م3. لذلك يرجّح أن كميّات الغاز المتوافرة في العالم تكفيه لحوالي 60 سنة قادمة بوتيرة المصروف السنوي حاليًا.

ويرى بعض الخبراء ان العديد من دول العالم وبسبب اتساع رقعة الخلافات السياسية والاقتصادية المستمرة، قد سعت الى اعتماد خطط واتفاقات جديدة في سبيل تأمين مصالحها من خلال ايجاد طرق بديلة للحصول على مصادر الطاقة، خصوصا بعد الاستكشافات المهمة لحقول الغاز الطبيعي في البحر المتوسط وباقي المناطق الأخرى، التي أضعفت نفوذ بعض الدول المهيمنة على مصادر الغاز وهو ما قد تكون له نتائج عكسية قد تسهم بزعزعة الأمن والاستقرار العالمي. حيث باشرت العديد من الدول وخصوصا المستهلكة بإقامة بعض المشاريع المهمة في مجال استثمار ونقل الغاز من خلال مد شبكات خطوط النقل التي أصبحت تمتد وتنتشر في العديد من مناطق العالم وهو ما قد يسهم ببروز مشكلات جديدة بشأن التحكّم بمرور هذه الخطوط والاستفادة منها عبر أراضي بعض الدول.

منذ مطلع القرن الحالي وكما تنقل بعض المصادر، وضع عدد من الخطط لتمديد أنابيب الغاز، منها ما بدأ تنفيذه، ومنها ما لا يزال قيد التخطيط. قامت روسيا بتنفيذ بعض هذه الخطوط لتعزيز موقعها في سوق الطاقة الأوروبي، على المدى البعيد. والبعض الآخر قام الأوروبيون والأميركيون بدعمه كخيار استراتيجي للحد من هيمنة الروس على سوق الطاقة الأوروبي والعالمي. وكذلك هناك مشاريع خطوط لنقل الغاز تبنّتها الصين والهند وباكستان، في إطار مقاربات، تختلط حساباتها الاقتصادية باعتباراتها السياسية والإستراتيجية البعيدة المدى.

اتهامات أوربية

وفي هذا الشأن فقد اتهمت المفوضية الاوروبية مجموعة غازبروم الروسية العملاقة باستغلال موقعها المسيطر في عدد من اسواق اوروبا الوسطى والشرقية، لكن الشركة الروسية اكدت ان"لا اساس" للاتهامات الاوروبية. واكدت المفوضة المسؤولة عن الملف مارغريث فستاجي ان غازبروم "اقامت على الارجح عوائق مصطنعة تمنع ارسال الغاز من بعض بلدان اوروبا الوسطى والشرقية الى بلدان اخرى، فتعرقل بذلك المنافسة عبر الحدود". واضافت فستاجي ان "تقسيم الاسواق الوطنية للغاز اتاح ايضا لغازبروم وضع اسعار نعتبرها غير عادلة في هذه المرحلة". وشددت على القول "اذا تأكدت مخاوفنا، فسيتعين على غازبروم تحمل العواقب القانونية لتصرفها".

وتشمل هذه الممارسات ثماني دول هي بلغاريا والجمهورية التشيكية واستونيا والمجر ولاتفيا ولتوانيا وبولندا وسلوفاكيا. وفي هذه المرحلة، تلقت المجموعة الروسية "بيانا بالمآخذ" من المفوضية الاوروبية، على اثر تحقيق فتحته بروكسل في آب/اغسطس 2012. وامامها مهلة 12 اسبوعا للرد ويمكن ان تطلب الاستماع اليها لتقديم حججها. واكدت فستاجي ان "المسالة مفتوحة حتى الان. ننتظر رد غازبروم".

وفي اسوأ الحالات، قد تضطر غازبروم الى دفع غرامة تبلغ حتى 10% من رقم اعمالها العالمي، اي اكثر من تسعة مليارات يورو. في 2013، سجلت غازبروم رقم اعمال بلغ 5249 مليار روبل (93 مليار يورو باسعار الاثنثين). ولم تنشر بعد نتائج 2014. وقالت فستاجي ان "الغاز اساسي لحياتنا اليومية. فهو يتيح تدفئة منازلنا، نستخدمه لاعداد الطعام وانتاج الكهرباء. واستمرار منافسة عادلة حول الاسواق الاوروبية ينطوي بالتالي على اهمية كبيرة". وفي موسكو، رأت غازبروم ان الاتهام "لا اساس له"، مؤكدة انها "تطبق تطبيقا دقيقا" القواعد المرعية الاجراء وانها تتصرف "بما يتوافق تماما مع المعايير التي تسير عمل" هذا القطاع. بحسب فرانس برس.

من جهته، انتقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الممارسات "غير المقبولة" للاتحاد الاوروبي حيال روسيا في سوق الطاقة. وكتبت المجموعة في بيان ان "غازبروم تعتبر ان الاعتراضات التي قدمتها المفوضية الاوروبية لا اساس لها"، مشيرة الى ان الاجراء الاوروبي ما زال جاريا. واضافت ان "غازبروم تطبق بدقة كل معايير القوانين الدولية والقوانين الوطنية للبلدان التي تعمل فيها". وقالت ان "ما تقوم به غازبروم في السوق الاوروبية بما في ذلك مبادىء تحديد الاسعار يتطابق تطابقا تاما مع المعايير التي يطبقها المنتجون والمصدرون الاخرون للغاز الطبيعي". واعربت غازبروم عن املها في ان "تؤخذ حقوقها ومصالحها المشروعة ... في الاعتبار" وان يأخذ الاتحاد الاوروبي في الاعتبار ان القانون الاوروبي لا يشمل المجموعة وانها تقوم بوظائف اجتماعية مرتبطة بوضعها كمؤسسة استراتيجية.

غاز تركمانستان

في السياق ذاته قال ماروس سيفكوفيتش نائب رئيس المفوضية الأوروبية في مقابلة إن الاتحاد الأوروبي حريص على تقليص الاعتماد على إمدادات الطاقة من روسيا ويتوقع أن يبدأ في استقبال إمدادات الغاز الطبيعي من تركمانستان بحلول عام 2019. وفي الوقت الحالي تمد روسيا أوروبا بنحو ثلث احتياجاتها من الغاز لكن ضم موسكو لشبه جزيرة القرم وتدخلها في الصراع العسكري في شرق أوكرانيا زاد من الحاح بحث الاتحاد الأوروبي عن امدادات غاز من مصادر بديلة. وصرح سيفكوفيتش من عشق آباد عاصمة تركمانستان قائلا "ثمة تفاهم متبادل جيد. بالنسبة لتركمانستان فتنويع بدائل التصدير أمر مهم جدا في حين يهم الاتحاد الأوروبي كثيرا تنويع الواردات."

وتحرص تركمانستان التي تملك رابع أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي في العالم على تنويع صادراتها لتشمل دولا أخرى غير روسيا التي ستقلص وارداتها في العام الجاري إلى أربعة مليارات متر مكعب من 11 مليارا في 2014. واجتمع سيفكوفيتش مع وزير الطاقة التركي تانر يلدز في عشق آباد وبوزير الطاقة في أذربيجان ناطق علييف ومع باي مراد خوجة محمدوف نائب رئيس وزراء تركمانستان والذي يشغل أيضا منصب رئيس هيئة موارد النفط والغاز في البلاد. وقال سيفكوفيتش "في هذا الإطار سنبحث جميع الجوانب الخاصة بخط أنابيب قزوين. قطعنا خطوة كبيرة في هذا الاتجاه الاستراتيجي."

ويهدف المشروع لنقل الغاز من تركمانستان إلى أوروبا عبر بحر قزوين فيما أطلق عليه "ممر الغاز الجنوبي" ويضم المشروع أذربيجان وتركيا لكن تسببت حالة عدم التيقن على الأصعدة السياسية والبيئة والمالية في تعثر المشروع. وتابع سيفكوفيتش "الآن هناك قرار سياسي بأن تكون تركمانستان جزءا من المشروع." وتابع أن مجموعة عمل ستتشكل في غضون شهر للإعداد للمشروع وتضم وزراء الطاقة وخبراء من وزارات الخارجية في الدول المعنية.

من جهة اخرى اعلن ماروس سيفكوفيتش، نائب رئيس المفوضية الاوروبية لشؤون الطاقة، ان اوروبا قد تستورد الغاز الطبيعي من تركمانستان عبر ايران في اطار محاولات بروكسل لتقليص اعتمادها على الغاز الروسي. وبعد اجتماع مع رئيس تركمانستان قربان علي بردي محمدوف في العاصمة عشق اباد، قال سيفكوفيتش ايضا انه بحث مع بردي محمدوف "احتمال بناء خط انابيب عبر بحر قزوين وايران باعتبار ان العلاقات مع ايران تتطور ايجابا"، بحسب ما افاد تلفزيون تركمانستان.

وعارضت طهران التي وقعت في الثاني من نيسان/ابريل اتفاقا اطارا مع القوى الكبرى بشان برنامجها النووي، مرارا مشروع خط انابيب غاز عبر قزوين معتبرة اياه ضعيف المردود ومفضلة خط انابيب بريا عبر اراضيها. لكن لان مهلة توقيع الاتفاق النهائي بشان النووي الايراني محددة في 30 حزيران/يونيو، فضل سيفكوفيتش حاليا التركيز على خط انابيب الغاز عبر قزوين، بحسب ما اوضح للصحافيين في عشق اباد. واضاف "ان مباحثاتنا ترجمت بوضوح الاردة السياسية في اتمام مشروع خط انابيب الغاز عبر قزوين (..) الذي سيوصل الغاز من بحر قزوين الى الحدود الاوروبية بحلول 2019-2020". بحسب فرانس برس.

وقد تعارض روسيا بشدة هذا المشروع الذي يلتف على حدودها. ووفرت روسيا اكثر من ثلث حاجات اوروبا من الغاز في 2014. وختم سيفكوفيتش "من المهم متابعة العمل بهدف التوصل الى اتفاق اطار بين الاتحاد الاوروبي وتركمانستان واذربيجان وتركيا ولكن ايضا مع جورجيا التي اعتقد انه يتعين دعوتها للمشاركة". وتقدر كلفة الانبوب ب 4,46 مليارات يورو وسيتيح تزويد الاتحاد الاوروبي باكثر من 30 مليار متر مكعب من الغاز. وتملك تركمانستان المحاذية لايران رابع احتياطي عالمي من الغاز الطبيعي لكن تنقصها البنى التحتية للنقل. واعلنت الصين انها تتوقع استيراد ما يصل الى 65 مليار متر مكعب من الغاز من تركمانستان سنويا حتى 2020.

الغاز الإيراني

على صعيد متصل بدأت اوروبا تحلم بالغاز الايراني بهدف تنويع مصادرها وتأمين امداداتها لتجنب التبعية لروسيا في هذا المجال، خصوصا مع احتمال ابرام اتفاق نووي من شأنه ان يعبد الطريق لرفع العقوبات عن طهران، رغم تحذير الخبراء من ان "هذا الامر سيستغرق وقتا طويلا". ويراهن الاتحاد الاوروبي على الممر الجنوبي في اشارة الى مجموعة من انابيب الغاز بنيت لتزويد دول جنوب الاتحاد الاوروبي بالغاز من اذربيجان ومن دول شرق اوسطية بما فيها ايران، عبر تركيا.

وقال مفوض الطاقة ميغيل ارياس كانيتي خلال اجتماع مع الوزراء الاوروبيين في ريغا ان "هذه واحدة من اولوياتنا". وستصبح هذه الخطوط عملانية عام 2019، ومن المتوقع في مرحلة اولى ان تقوم بضخ عشرة مليارات متر مكعب من الغاز سنويا الى بلغاريا واليونان، لكنها "لن تكون كافية" بحسب المفوضية. غير انه مع الغاز الايراني بعد رفع الحظر الدولي عن طهران "يمكن زيادة القدرة الى 40 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، وهذا يفي بالغرض"، حسب ما قال مسؤول اوروبي. وتسعى اوروبا جاهدة لتنويع المصادر والموردين وطرق الامداد.

واستوردت اوروبا 53 في المئة من استهلاكها من الغاز في 2014 ب400 مليار يورو. وهي تشتري 125 مليار متر مكعب سنويا من مجموعة غازبروم الروسية فقط، نصفها يتم ضخها عبر خطوط الانابيب الأوكرانية، ما يوفر مصدر دخل لهذا البلد. لكن الامداد عبر اوكرانيا أصبح غير ثابت بسبب الخلاف المالي المستمر بين غازبروم وشركة نفتوغاز الاوكرانية. وتفاقمت هذه الازمة المالية مع تصاعد الحرب بين الطرفين.

ويهدد رئيس شركة غازبروم الكسي ميلر بانهاء الامداد عبر اوكرانيا في 2019. وكان يعول على خط انابيب ساوث ستريم الى بلغاريا، والذي يمر تحت البحر الاسود، للالتفاف على اوكرانيا. ولكن تم التخلي عن المشروع بسبب رفض غازبروم الامتثال لقواعد المنافسة لدى الاتحاد الاوروبي. وسيحل بدلا منه، مشروع توركيش ستريم الذي اطلقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كانون الاول/ديسمبر 2014 ، بقدرة استيعاب 63 مليار متر مكعب، وهو ما يعادل بالضبط كميات الغاز الروسي التي تعبر من اوكرانيا سنويا. وسيتم التوزيع من تركيا، على ان يقوم الأوروبيون ببناء البنى التحتية الكفيلة بايصال الغاز الى اوروبا.

الا ان الاوروبيين يعتقدون ان توركيش ستريم لن يرى النور. فاليونان اعربت عن اهتمامها "لكن شيئا لم يوقع حتى الآن، ولم يتم ابرام اي عقد"، بحسب متحدث باسم المفوضية الأوروبية. وقال مسؤول اوروبي كبير ان الاستثمارات اللازمة لهذا المشروع "ستكون هائلة". ويقول خبراء انه يتعين على الاتحاد الاوروبي تجنب الحلم المفرط بالغاز الايراني. وقالت جودي ديمبسي من معهد كارنيغي "من الواضح ان ايران بديل، ولكن يتعين على الاوروبيين الا يضعوا بيضهم في سلة واحدة". واضافت ان "ايران لن تكون قادرة على تلبية مجمل متطلبات الاتحاد الاوروبي". بحسب فرانس برس.

وبحسب دانييل غروس من مركز دراسات السياسة الاوروبية "سيستغرق الامر وقتا طويلا قبل ان تصبح ايران بديلا متينا عن غازبروم، وسيبقى الغاز الروسي لمدة طويلة اقل ثمنا". ويضيف المسؤول الاوروبي ان "السؤال ليس في مسألة التخلي عن الغاز الروسي"، لكن النرويج "تنتج بكامل قدراتها"، وبالنسبة للجزائر الغنية بالغاز "فان اطار الاستثمارات، وخصوصا لجهة الضرائب، يثير مشاكل". ويضيف ان "المصدر الرئيسي للتنويع هو الغاز الطبيعي السائل"، لكن الخبراء يحذرون من ان "سعره سوف يكون دائما اعلى من سعر الغاز الطبيعي الروسي".

طموحات تركيا

من جهة اخرى تأمل تركيا ان تتحول الى مركز ترانزيت مهم انطلاقا من خطي انابيب جديدين لضخ الغاز من اذربيجان وروسيا الى اوروبا، الا ان تحقيق الطموحات المعلنة لا يبدو بسهولة التباهي باعلانها. وبدأت تركيا واذربيجان رسميا بناء خط انابيب غاز جديد عابر للاناضول بطول 1850 كيلومترا سيضخ الغاز من حقل شاه دينيز 2 الاذربيجاني، ومن المقرر ان ينتهي العمل به في العام 2018 على ان يضخ عشرة مليارات متر مكعب من الغاز سنويا للزبائن الاوروبيين وستة مليارات متر مكعب للزبائن الاتراك.

وفي الوقت ذاته يجري المسؤولون الروس والاتراك مفاوضات مكثفة للاتفاق على بنود المشروع الجديد لمد انبوب غاز بين البلدين يمر تحت البحر الاسود. وفيما يدعم الاتحاد الاوروبي انبوب الغاز العابر للاناضول تقف روسيا خلف مشروع "توركيش ستريم"، اما تركيا فتجد نفسها في موقع استراتيجي مهم في اطار المنافسة بين بروكسل وموسكو على امدادات الغاز. وتطمح تركيا الى ان تحول المنطقة التي تحد اليونان وبلغاريا في غرب البلاد الى مركز للغاز حيث تلتقي عدة انابيب لضخ الغاز الى الزبائن في الاتحاد الاوروبي.

ويبدو ان مشروع انبوب الغاز العابر للاناضول والمدعوم من الاتحاد الاوروبي في طور التنفيذ، اذا ان عائدات الاستثمارات ما بين 40 و45 مليارات دولار في حقل شاه دينيز2 الاذربيجاني الضخم تعتمد على انبوب الغاز. اما مشروع "توركيش ستريم" فيواجه صعوبات اكثر، ولا يبدو مستقرا حتى الآن. وتدور التساؤلات حول قدرة تركيا على ان تتحول الى مركز حقيقي للغاز، الامر الذي يتطلب اكثر بكثير من مجرد انشاء بنية تحتية من الانابيب.

وفي هذا الصدد يقول ادوارد شو، الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، انه "من اجل التحول الى مركز للطاقة هناك العديد من العناصر الضرورية، ولا يوجد اي منها في تركيا". و يشير الى غياب نظام مصرفي متمكن دوليا ونظام قانوني محكم لحل النزاعات التجارية العادية فضلا عن منشآت تخزين كافية. وفي المقابل "تملك تركيا افضلية من حيث الموقع، فهي تقع على مقربة من دول منتجة للغاز والنفط. ولكن التحول الى مركز يتطلب وقتا"، بحسب قوله.

ويدعم الاتحاد الاوروبي بقوة مشروع انبوب الغاز العابر للاناضول، والتي تبلغ تكلفته عشرة مليارات دولار، ودشنه رسميا كل من الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ونظيره الاذربيجاني الهام علييف. ويأمل الاتحاد الاوروبي في ان يساعده هذا المشروع على تخفيف اعتماده على الغاز الروسي.

ولكن يقول محللون انه سيكون على تركيا زيادة نشاطها لتتخطى الخطة الاولية من 16 مليارات متر مكعب في حال ارادت احداث تأثير رئيسي لصالح هدف الاتحاد الاوروبي والمتمثل بايجاد مصادر تموينية اخرى بعيدا عن روسيا برئاسة فلاديمير بوتين. وعلى الامد الطويل، اذا نجح مشروع انبوب الاناضول في ضخ كميات اكثر فان "اهميته الكبرى ستتضح، وهذا امر من المرجح ان يحصل ولكن ليس في وقت قريب"، وفق ما يقول لوران روسكاس المستشار في شركة "اي اتش اس انرجي" العالمية.

اما في ما يخص مشروع "توركيش ستريم"، فقد اعلن عنه بوتين في كانون الاول/ديسمبر الماضي خلال زيارته الى انقرة كبديل عن مشروع انابيب "ساوث ستريم" ولتخطي اوكرانيا. وحمل الرئيس الروسي الاتحاد الاوروبي مسؤولية انهيار مشروع "ساوث ستريم" الذي كان من المفترض ان يصل الى شاطئ بلغاريا ليغذي جنوب الاتحاد الاوروبي. ولكن يبقى على روسيا وتركيا، ويديران اصلا مشروع انبوب "بلو ستريم"، ان يتوصلا الى اتفاق نهائي حول "توركيش ستريم".

وفي مقابل موافقتها على مرور الانبوب، ضمنت تركيا من روسيا تخفيضا بنسبة 10,25 في المئة على وارداتها من الغاز. وافادت صحيفة كومرسانت الروسية ان المباحثات النهائية وصلت الى "طريق مسدود" في ما يخص الاسعار، فيما اصر وزير الطاقة التركي تانر يلديز على ان الطرفين متفقان. وفي هذا الصدد يقول روسكاس "اتوقع ان يحصل هذا (المشروع) ولكنه ليس جاهزا للاطلاق حتى الآن، يجب على المجموعتين الروسية غازبروم والتركية بوتاش ان تتفاوضا على اتفاق وتوقعانه".

وفور توقيع الاتفاق، ستكون هناك حاجة الى ارادة سياسية تدعمها ارادة مالية ضرورية لبناء الانابيب الاربعة التي من شأنها تأمين الكمية المتوقعة والمتمثلة بـ63 مليار متر مكعب، وهي ذاتها التي كان من المتفرض ان يؤمنها مشروع "ساوث ستريم". ويقول شو "من الصعب علي ان اتخيل تنفيذ نظام الـ63 مليار متر مكعب في اي وقت قريب، وخصوصا في ظل الضغوط المالية على مجموعة غازبروم الروسية والضغوطات (التي تتعرض لها روسيا) بسبب العقوبات الغربية على خلفية اوكرانيا". وتجدر الاشارة الى ان قدرة الانبوب الواحد على الضخ تصل الى 16 مليار متر مكعب. بحسب فرانس برس.

وبالرغم من الصعوبات، يظهر مشروع "توركيش ستريم" العلاقة القوية بين روسيا وتركيا. وقد استطاعت الدولتان تخطي خلافاتهما حول الازمتين السورية والاوكرانية تفاديا لتضرر تحالفهما.

وفي حين قد يبدو مشروع الانبوب العابر للاناضول منافسا لمشروع "توركيش ستريم"، اتصل اردوغان بالرئيس الروسي بعد الاحتفال بتدشين انبوب الغاز الاذربيجاني لبحث المشروع المشترك مع موسكو، وفق ما اعلن الكرملين.

مشروع عملاق

الى جانب ذلك تمتد شبه جزيرة يامال في القطب الشمالي الروسي على مساحة شاسعة بيضاء من الثلج والجليد في القطب وتضم ورشة احد اكثر مشاريع الغاز طموحا في العالم على رغم تحديات الطقس القاسي والعقوبات الناجمة عن النزاع الاوكراني. ويتذكر ديمتري فونين اول زيارة له الى شبه الجزيرة اوخر 2012. اتسمت الامور بالبساطة آنذاك. "لم يكن شيء متوافرا. فقط السهوب الجليدية"، كما يقول هذا المسؤول السابق في المشاريع الصناعية في الشمال الروسي الكبير، والمسؤول اليوم عن البناء في مجمع يامال للغاز الطبيعي المسال الذي تبلغ تكلفته 27 مليار دولار وتبنيه مجموعة شركة نوفاتك الروسية مع توتال الفرنسية ومؤسسة البترول الوطنية الصينية.

والموقع الذي يبعد 2500 كلم عن موسكو وفي شمال القطب الشمالي، لم يكن آنذاك سوى قرية سابيتا التي تستخدم قاعدة لعلماء الجيولوجيا والمستكشفين وسط مناطق عذراء تتحكم فيها العواصف الجليدية وتجوبها الثعالب القطبية والدببة البيضاء والتي لا ترى الشمس طوال شهر في الشتاء. بعد سنتين ونصف السنة، باتت اثار الانشطة البشرية تتيح تمييز الارض عن البحر اللذين تغطيهما الطبقة البيضاء نفسها. فهنا ترى رافعة وهناك سفينة شحن عالقة في الجليد. وتضم سابيتا مرفأ على بحر كارا يتيح استقبال معدات البناء والاثاث، وافتتح فيها منذ شباط/فبراير مطار يستقبل رحلات منتظمة.

وينشط حوالى تسعة الاف شخص ليطلقوا ابتداء من 2017 مصنع تسييل الغاز الذي تفوق قدرته 16,5 مليون طن سنويا، على ان ينقل القسم الاكبر منها بحرا الى السوق الآسيوية الاستراتيجية. وفي انتظار خطوط انتاج الغاز الطبيعي المسال، شيد اثنان من خزانات التخزين الاربعة التي يتسع كل منها 160 الف متر مكعب، على دعائم تخترق طبقات الارض الدائمة التجمد. واذا كانت روسيا قد جازفت في مشروع بالغ الصعوبة وباهظ التكلفة، فيما تنتج كميات كافية من الغاز لتلبية حاجاتها وحاجات زبائنها الاوروبيين، فلأن مشروع يامال يلبي حاجة استراتيجية ملحة. فهو سيتيح لروسيا تنويع صادراتها من المحروقات الى آسيا، وترافق بروز هذه الضرورة مع الازمة الاقتصادية في اوروبا وزادت من اهميتها التوترات المتزايدة مع البلدان الاوروبية.

وحتى قبل ان توقع موسكو عقدا غير مسبوق مع الصين لتزويدها بالغاز عبر خط للأنابيب ابتداء من 2018، حصلت مجموعة نوفاتك على حق تصدير الغاز الطبيعي المسال، ودخلت مؤسسة البترول الوطنية الصينية في رأس مال يامال الغاز الطبيعي المسال على مستوى شركة توتال نفسه اي 20%. وقال المدير الجديد لتوتال باتريك بويانيه خلال زيارة الى الموقع "نستطيع تلبية حاجات السوق الاوروبية والسوق الاسيوية"، وتحدث عن "قاعدة جديدة لتوسع" شركته التي راهنت كثيرا على روسيا حيث لقي مصرعه العام الماضي مديرها السابق كريستوف دو مارغوري في حادث في مطار موسكو.

لكن الظروف تغيرت لدى اندلاع الازمة الاوكرانية. ففي منتصف تموز/يوليو، قررت الولايات المتحدة التي تتهم موسكو بارسال قوات لدعم الانفصاليين في شرق اوكرانيا، ان تضيف نوفاتك الى لائحتها السوداء للكيانات المعاقبة. وكانت النتيجة ان مصادر التمويل بالدولار اقفلت فجأة في وجه يامال للغاز الطبيعي المسال، فيما مازال يتعين استثمار 18 مليار دولار، وخفض تراجع اسعار النفط عائدات القطاع. لكن المشروع لا يخضع بصورة مباشرة للعقوبات، خلافا لورش نفطية اخرى في القطب الشمالي الروسي.

ولتعويض هذا النقص، اعلنت توتال اخيرا انها تسعى الى الحصول على تمويل من المستثمرين الصينيين بما بين 10 الى 15 مليار دولار. وقال بويانيه "لولا العقوبات، لكان التمويل تأمن بالكامل، فلنكن واضحين"، معربا عن امله في تأمين المبالغ قريبا. واضاف "انها مسألة اسابيع". وقررت الدولة الروسية منح ارصدة لاجال طويلة تبلغ قيمتها الاجمالية 150 مليار روبل (2,7 مليار يورو) دفعت نصفها حتى الان. بحسب فرانس برس.

وما عدا ذلك "يعاني المتعهدون من الباطن والشركات الاخرى من العقوبات"، كما كشف رئيس مجلس ادارة نوفاتك ليونيد ميخلسون. واضاف ان "صعوبات تقنية تظهر مع الاموال، لكن التوصل الى حلها مسألة سهلة". واكد مسؤول في شركة اوروبية موجودة في الورشة ان "المصارف تتمهل للتحقق من ان العقوبات لا تتعرض للانتهاك وتتساءل هل سيتم تشديدها ام لا. وهذا يولد ضغوطا".

اضف تعليق