q
نظرة واحدة إلى طبيعة الأحداث والتطورات الداخلية التي تجري في العديد من البلدان الإسلامية، يجعلنا نعتقد وبشكل جازم أن هذه الثقافة (ثقافة الكراهية والنبذ والإقصاء) بمتوالياتها وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية والسلوكية، هي المسؤولة عن الكثير من الأزمات والمخاطر، وهي صانعة للعديد من التوترات والاحتقانات المجتمعية. وإن...

لعل من الظواهر الإنسانية الثابتة، والتي تتطلب قراءة عميقة لمعرفة العوامل والأسباب المفضية إليها، والطرق المناسبة، لتجاوز التأثيرات السلبية والمدمرة لهذه الظاهرة، أو التقليل من حدوثها وبروزها في الفضاء الإنساني. هي ظاهرة الكراهية والعداء والعداوة بين بني الإنسان. حيث تشترك عوامل عدة، موضوعية وذاتية، داخلية وخارجية، في بروز حالة العداء والعداوة بين الإنسان وأخيه الإنسان.

وكثيرة هي الأحداث والتطورات السياسية والاجتماعية والثقافية في المجالين العربي والإسلامي، التي تؤكد على ضرورة الإسراع في نبذ التعصب والوقوف بحزم ضد ثقافة الكراهية والإقصاء والتهميش. لأن هذه الثقافة، هي بمثابة الحاضن الأكبر والأساسي للعديد من الأزمات التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم.

كما أنها تؤسس باستمرار إلى صراعات داخلية خطيرة، ولا يمكن حماية استقرارنا السياسي والاجتماعي اليوم، إلا بنبذ ثقافة الكراهية وتفكيك جذورها التي تغذي عمليات الإقصاء والتهميش ضد المغاير حتى ولو اشترك هذا الأخير معهم في الدين والوطن.

ونظرة واحدة إلى طبيعة الأحداث والتطورات الداخلية التي تجري في العديد من البلدان الإسلامية، يجعلنا نعتقد وبشكل جازم أن هذه الثقافة (ثقافة الكراهية والنبذ والإقصاء) بمتوالياتها وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية والسلوكية، هي المسؤولة عن الكثير من الأزمات والمخاطر، وهي صانعة للعديد من التوترات والاحتقانات المجتمعية.

وإن الحاجة اليوم ماسة وضرورية، إذا أردنا الأمن والاستقرار وحماية المكتسبات، إلى تفكيك هذه الثقافة التي لا تتوانى في خلق التطرف والإرهاب والأزمات المتلاحقة على أكثر من صعيد.

فاليوم وعلى مستوى العالم الإسلامي بأسره، لا استقرار اجتماعي وسياسي واقتصادي، إلا برفض ثقافة الاستبداد والتعصب والتشدد والتباعد ومتوالياتهما ولوازمهما المختلفة.

وفي إطار العمل على نبذ ثقافة التعصب والكراهية من فضائنا الاجتماعي، من الضروري التأكيد على النقاط التالية:

1- كسر حاجز الجهل بالآخر. ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن الجهل بالآخر أو تصور الآخر عن بعد وبعيداً عن وسائل المعرفة الحقيقية والسليمة، هو أحد الحوامل الرئيسية لظاهرة التعصب والتشدد والكراهية في الفضاء الاجتماعي.

لذلك فإن الضرورة قائمة وبشكل ملح لكسر حاجز الجهل بالآخر على مختلف الصعد والمستويات. بحيث انه لا يعقل بأي شكل من الأشكال أن نكون جميعاً حبيسي تصورات مغلوطة وملتبسة عن بعضنا البعض.

فالاستقرار السياسي والتماسك الاجتماعي اليوم، يتطلب معرفة دقيقة وموضوعية بالآخر بعيداً عن حروب الأوراق الصفراء والمماحكات الأيدلوجية والمساجلات المذهبية، التي لا تلتزم بأدنى متطلبات الحوار والفهم المتبادل. إننا مطالبون ومن مواقعنا المختلفة، إلى كسر حاجز الجهل عن بعضنا البعض. لأن الكثير من التوترات وحالات الجفاء والتباعد، هي من جراء جهلنا ببعضنا البعض. ويتغذى هذا الجهل باستمرار بخطابات ديماغوجية لا تمتلك من هم إلا هم تأكيد هذه القطيعة، ومن أفق إلا أفق المساجلات الأيدلوجية والمذهبية العقيمة وهذا التباعد بين مكونات المجتمع والأزمة الواحدة.

ونحن هنا لا ندعو إلى إلغاء نقاط الاختلاف الطبيعية والموضوعية بين مختلف المكونات والتعبيرات. ولكننا ندعو إلى ضبط عناصر الاختلاف بالمزيد من المعرفة الموضوعية المتبادلة.

وذلك لأن الجهل المتبادل وصياغة تصورات ومواقف من الآخر بعيداً عن مقتضيات العدل والموضوعية، هو المسؤول إلى حد بعيد عن استمرار ثقافة النبذ المتبادل بين المختلفين في الدائرة الاجتماعية والوطنية الواحدة.

آن الأوان بالنسبة لنا جميعاً، ومن أجل مواجهة المخاطر والتحديات المشتركة وصيانة وحدتنا الوطنية وحماية مكتسباتنا الاجتماعية والسياسية للعمل من أجل كسر حاجز الجهل الذي يغذي باستمرار ثقافة الكراهية والتطرف ضد بعضنا البعض.

وبون شاسع على المستويات كافة، أن نختلف على قاعدة الجهل المتبادل مما يحول هذا الاختلاف إلى مصدر للتوتر الدائم في مختلف مجالات الحياة. أو نختلف على قاعدة المعرفة المتبادلة التي تقودنا إلى المزيد من الحوار والتلاقي والفهم والتفاهم، بعيداً عن لغة التشنج أو خطابات القطيعة والنبذ والإقصاء.

لذلك فإننا ندعو باستمرار، ومن أجل مواجهة ثقافة التطرف والكراهية، إلى تأسيس الأطر والهياكل والقيام بالمبادرات التي تكسر حواجز الجهل المتبادل، وتضيء مساحة المعرفة المتبادلة. لأن هذا هو خيارنا من أجل نبذ الإرهاب وتفكيك موجبات الكراهية من فضائنا الاجتماعي.

ولنتذكر باستمرار قول الباري عز وجل {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}. (سورة آل عمران، الآية 102- 104).

فالمعرفة المتبادلة وكسر حاجز الجهل تجاه بعضنا البعض، هو الذي يحول دون تحويل الاختلاف إلى عداوة، وتعدد الآراء والاجتهادات إلى ساحة للصراع والنزاعات المفتوحة، والتي لا رابح منها إلا أعداء الأمة وخصومها الحاضرين والتاريخيين.

ولابد أن ندرك جميعاً وعلى ضوء تحديات المرحلة وتطورات الراهن أن كسر حواجز الجهل وتعميق أسباب المعرفة المتبادلة والعميقة تجاه بعضنا البعض، هي من الضرورات القصوى التي تمكننا من سد بعض ثغراتنا، وتمتين أواصر العلاقات الداخلية.

فالمعرفة المتبادلة والموضوعية اليوم، هي شرط الوئام الاجتماعي، وتعزيز التفاهم والتلاقي، وسبيل تنمية المشتركات وتفعيلها.

والحوار والتفاهم والتلاقي مع الآخرين، لا يلغي ضرورات الاعتزاز بالذات، ولكنه اعتزاز لا يصل إلى مستوى العصبية المذمومة، أو يكرس نظرة شوفينية واستعلائية للذات ضد الآخرين. انه اعتزاز بالذات لا يلغي متطلبات الوحدة وشروطها النفسية والأخلاقية. لذلك جاء في الحديث الشريف (العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم).

2- إن الالتزام بالفكرة على أي نحو من الأنحاء، لا يشرع للتعصب لها، وإنما هو يدفعك ويحركك نحو التجسيد العملي لكل جوانب الفكرة ومجالاتها وآفاقها، والمغاير لنا في الالتزام والقناعات والمواقف، نعترف بوجوده، وننظم علاقاتنا معه، ونتحاور معه حول كل القضايا والأمور، من أجل أن تتراكم أسباب المعرفة، وتتوطد عوامل العلاقة. إذ قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} (سورة آل عمران، الآية 64).. وبهذه العقلية تتجذر مفاهيم حقوق الإنسان، وتتأكد قيم التسامح والتعاون والتضامن.

وفعالية الحوار تنبع من أنه يجعل كل الآراء والقناعات والمواقف في ساحة التداول لتقويمها وتمحيصها وتطويرها. ولا ريب أن لهذه العملية التداولية تأثيرات إيجابية على الصعيد المجتمعي، حيث أنها تحرك الراكد، وتسائل السائد، وتبحث في آفاق وفرص جديدة وممكنة.

والالتزام الواعي بالأفكار، لا يمنع نقدها، وإنما يؤسس ويحفز على ممارسة النقد البناء والمعرفة العميقة.

والنقد في هذا الإطار، لا يتجه إلى الدحض والنقض، وإنما لتوليد رؤى وأفكار وصيغ جديدة، تحرك الراكد وتستفز الساكن، وتدفع الجميع نحو المزيد من الحوار والتلاقي.

وهكذا لا يتحول النقد إلى ممارسة عشوائية، قوامها النقض والاستفزاز، وإنما هو عملية قصدية وواعية تتجه إلى اكتشاف مساحات جديدة للنظر والتفكير، وحقول مميزة للعمل والحركة، وآفاق راهنة للتطلع وبلورة الطموح.

3- تنمية القناعات والمساحات المشتركة: فالقرآن الحكيم يعلمنا أن الحوار يستهدف الانطلاق من القواسم المشتركة، ويسعى عبر آلياته وأطره إلى تنمية المساحات المشتركة والعمل على تفعيلها. وبالتالي فإنه حوار لا يستهدف الإفحام والقطعية وإنما التواصل والتعايش.

لذلك فإن الجهود الوطنية والاجتماعية، من الأهمية بمكان أن تتجه صوب تنمية المشتركات وضبط عناصر التمايز والاختلاف، والعمل على تفعيل تلك المشتركات، حتى تتوفر في الفضاء الاجتماعي حقائق ووقائع جديدة قوامها التواصل والتضامن والتعايش، وعلى ضوء هذا نصل إلى حقيقة أساسية وهي أن مجابهة ثقافة الكراهية في الفضاء الاجتماعي، تتطلب كسر حاجز الجهل المتبادل وتوسيع دوائر المعرفة المتبادلة، وإطلاق مشروعات ومبادرات للحوارات المستديمة التي لا تستهدف الإفحام والمماحكة، وإنما توفير مناخ إيجابي لتطوير العلاقات الداخلية في المجتمع الواحد، والعمل على تنمية المشتركات وتفعيل عناصرها.

وذلك من أجل أن نخلق حقائق مجتمعية مضادة للقطيعة ومحفزة على التفاهم والتلاقي على قاعدة تنظيم دوائر الاختلاف وتحفيز خيارات الوحدة والوئام الاجتماعي.

والاختلافات العقدية والفكرية والسياسية بين بني الإنسان، ليست مدعاة ومبرراً لانتهاك حقوقه أو التعدي على كرامته. بل هي مدعاة للحوار والتواصل وتنظيم الاختلافات وضبطها تحت سقف كرامة الإنسان وصون حقوقه.

ولقد آن الأوان بالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين، إلى إعادة الاعتبار إلى الإنسان ومقاومة كل حالات التعدي على حقوقه ومكتسباته. فالاختلاف مهما كان شكله أو طبيعته، ليس مبرراً ومسوغاً لانتهاك حقوق الإنسان. فالخالق سبحانه وتعالى أكرم الإنسان، ودعانا وحثنا جميعاً وعبر نصوص قرآنية عديدة على احترام الإنسان بصرف النظر عن لونه أو عرقه أو فكره، وصيانة كرامته وحقوقه.

والحرية بوصفها مصدر المسؤولية، لا تفضي بالكائن البشري إلى اختيار الحق والعدل والخير بالضرورة. بل تجعل الاختيار مفتوحاً على جميع الاتجاهات والاحتمالات. لذلك كان التاريخ البشري حافلاً باختيار الظلم والشر إلى جانب العدل والخير، وكان الإنسان مسئولا عن ذلك كله. أما الكائنات الأخرى، فليست مسئولة عن ما يعرض لها أو بسببها لأنها ليست كائنات مختارة. فالباري عز وجل لم يخلق الإنسان خلقاً جامداً خاضعاً للقوانين الحتمية التي تتحكم به فتديره وتصوغه بطريقة مستقرة ثابتة، لا يملك فيها لنفسه أية فرصة للتغيير وللتبديل، بل خلقه متحركاً من مواقع الإرادة المتحركة التي تتنوع فيها الأفكار والمواقف والأفعال، مما يجعل حركة مصيره تابعة لحركة إرادته. فهو الذي يصنع تاريخه من خلال طبيعة قراره المنطلق من موقع إرادته الحرة، وهو الذي يملك تغيير واقعه من خلال تغييره للأفكار والمفاهيم والمشاعر التي تتحرك في واقعه الداخلي لتحرك الحياة من حوله.

وهكذا أراد الله للإنسان أن يملك حريته، فيتحمل مسؤوليته من موقع الحرية. ويدفعه إلى أن يواجه عملية التغيير في الخارج بواسطة التغيير في الداخل، فهو الذي يستطيع أن يتحكم بالظروف المحيطة به، بقدر علاقتها به، وليس من الضروري أن تتحكم به. فالإنسان هو صانع الظروف، وليست الظروف هي التي تصنعه. وعليه فإن تطوير واقع الحرية في الحياة الإنسانية، يتوقف على الإرادة الإنسانية التي ينبغي أن تتبلور باتجاه الوعي بهذه القيمة الكبرى أولاً، ومن ثمَّ العمل على إزالة كل المعوقات والكوابح التي تحول دون الحرية. فالحرية في الواقع الإنساني لا توهب، وإنما هي نتاج كفاح إنساني متواصل ضد كل النزعات التي تعمل على إخضاع الإنسان وإرادته. سواء كانت هذه النزعات ذاتية مرتبطة بحياة الإنسان الداخلية، أو خارجية مرتبطة بطبيعة الخيارات السياسية والاقتصادية والثقافية، التي قد تساهم في إرجاء الحرية أو تعطيلها ووأد بذورها الأولية وموجباتها الأساسية.

وما دام الإنسان يعيش على ظهر هذه البسيطة، سيحتاج إلى الحرية التي تمنحه المعنى الحقيقي لوجوده. ولكي ينجز هذا المعنى، هو بحاجة إلى إرادة وكفاح إنساني لتذليل كل العقبات التي تحول دون ممارسة الحرية الإنسانية على قاعدة الفهم العميق لطبيعة عمل سنن الله سبحانه في الاجتماع الإنساني. ومن هنا ومن خلال هذه المعادلة التي تربط الوجود الإنساني برمته بالحرية والإرادة والمسؤولية، فإن الكدح الإنساني سيتواصل، والشوق الإنساني إلى الحرية والسعادة سيستمر، والإحباطات والنزعات المضادة ستبقى موجودة وتعمل في حياة الإنسان. لذلك فإن الوجود الإنساني هو عبارة عن معركة مفتوحة بين الخير الذي ينشد الحرية والسعادة والطمأنينة القلبية، والشر الذي لا سبيل لاستمراره إلا البطر والطغيان والاستئثار.

ولكي ينتصر الإنسان في معركته الوجودية، هو بحاجة إلى الإيمان والعلم والتقوى، حتى يتمكن من هزيمة نوازعه الشريرة وإجهاض وتهذيب نزعات البطر والطغيان.

ولا يخفى أن شعور الإنسان بالأمن والطمأنينة في الحياة هو الشرط الضروري لكي يقدم على العمل والإنتاج والتعمير في الأرض. ففي مناخ الأمن النفسي تنمو القدرات الذهنية وتتجه نحو الإبداع، وتنشيط القدرات الإنجازية وتتضاعف فعاليتها ويزكو إنتاجها. فإنسانية الإنسان في جوهرها وعمقها مرهونة بحرية الإنسان.

إذ أن الحرية هي شرط إنسانية الإنسان. وحينما يفقد هذا الشرط، يفقد الإنسان مضمونه وجوهره الحقيقي. لذلك فإننا نرى أن احترام آدمية الإنسان، ومجابهة أي محاولة تستهدف انتهاك حقوقه الأساسية، هي الخطوة الأولى في مشروع تحقيق إنسانية الإنسان. فالإنسان بكرامته وحرماته وحقوقه، هو حجر الأساس في أي مشروع تنموي أو تقدمي. لذلك فنحن بحاجة دائماً إلى رفع شعار ومشروع صيانة حقوق الإنسان وكرامته بصرف النظر عن عرقه أو لونه أو قوميته أو أيدلوجيته.

اضف تعليق