q
يبدو ان الحديث عن تحقيق الديمقراطية في السودان ما يزال بعيدا في ظل استمرار الخلافات بين المؤسسة العسكرية وقوى الحراك الشعبي التي تطالب بحكم مدني، وبمحاكمة أقطاب النظام السابق كما نقلت بعض المصادر عن جرائم فساد مالي وإداري وتبديد الموارد، ونهب ثروات البلاد وتشريد مواطنيها...

يبدو ان الحديث عن تحقيق الديمقراطية في السودان ما يزال بعيدا في ظل استمرار الخلافات بين المؤسسة العسكرية وقوى الحراك الشعبي التي تطالب بحكم مدني، وبمحاكمة أقطاب النظام السابق كما نقلت بعض المصادر عن جرائم فساد مالي وإداري وتبديد الموارد، ونهب ثروات البلاد وتشريد مواطنيها والزج بهم في السجون والمعتقلات، اضافة الى تفكيك أجهزة الأمن الوطني وحل حزب المؤتمر الوطني، واتخاذ إجراءات حاسمة لتطهير مؤسسات الدولة من نظام البشير وأعوانه. يضاف الى ذلك التدخلات الخارجية حيث تسعى بعض الدول الى دعم جهات معينة من اجل تحقيق مصالحها الخاصة.

وقد دعت قوى "إعلان الحرية والتغيير" التي تقود الحراك الشعبي في السودان، إلى تنظيم مسيرات في العاصمة الخرطوم وعدد من المدن، "رفضاً للمحاصصة الحزبية". وقالت "قوى التغيير" في بيان: "شعبنا، كما عهدتنا مذعنين لقرارك، ستكون شعارات مواكبنا (مسيراتنا) كما تحب وترضى، وستتضمن شعار الالتزام بإعلان الحرية والتغيير، ورفض المحاصصة الحزبية". وأردف البيان: "ستكون دُورنا ومقارنا مفتوحة لكل زائر مرحبين، فنحن من الشعب وإليه وهذه الجماهير قائدة لا منقادة". وأكّد البيان التزام "القوى" بميثاق "إعلان الحرية والتغيير"، وتأكيد الالتزام بحكومة الكفاءات الوطنية.

وجاءت هذه الدعوة عقب نداءات وجهها ناشطون لتنظيم مواكب تتوجه لمقر "تجمع المهنيين" بالخرطوم، للمطالبة بالالتزام بميثاق "إعلان الحرية والتغيير" إثر تداول أنباء عن ترشيح حزبيين لمناصب وزارية بينها رئاسة الوزراء. وينص إعلان الحرية والتغيير على 9 نقاط، أبرزها "تشكيل حكومة انتقالية قومية من كفاءات وطنية، ووقف الحرب ومخاطبة جذور المشكلة السودانية، ووقف التدهور الاقتصادي، وإعادة هيكلة الخدمة المدنية والعسكرية (النظامية)، وإعادة بناء وتطوير المنظومة الحقوقية والعدلية، وضمان استقلال القضاء وسيادة القانون".

وكان الفرقاء السودانيون وقعوا مؤخراً بالأحرف الأولى على وثيقة اتفاق المرحلة الانتقالية، المبرمة بين المجلس العسكري و"قوى التغيير". ونص الاتفاق على تشكيل مجلس السيادة من 11 عضواً؛ 5 عسكريين يختارهم المجلس العسكري، و5 مدنيين تختارهم "قوى التغيير"، تضاف إليهم شخصية مدنية يتم اختيارها بالتوافق بين الطرفين.

ويترأس أحد الأعضاء العسكريين مجلس السيادة 21 شهراً، ابتداء من تاريخ توقيع الاتفاق، وتعقب ذلك رئاسة أحد الأعضاء المدنيين مدة الأشهر الـ18 المتبقية من الفترة الانتقالية (39 شهراً). ويتولى المجلس العسكري الحُكمَ منذ أن عزلت قيادة الجيش، في 11 أبريل الماضي، عمَر البشير من الرئاسة (1989 - 2019)، تحت وطأة احتجاجات شعبية، بدأت أواخر العام الماضي؛ تنديداً بتردي الأوضاع الاقتصادية.

مخاطر الفترة الانتقالية

وقع المجلس العسكري الحاكم في السودان وتحالف لجماعات الاحتجاج والمعارضة اتفاقا سياسيا بشأن فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات تسبق إجراء انتخابات. لكن التقدم صوب اتفاق نهائي اتسم بالبطء وشابه العنف مما أثار الشكوك في تحقيق آمال المعارضة في حكم مدني ونظام ديمقراطي. وفي ديسمبر كانون الأول اجتاحت السودان احتجاجات تسببت فيها أزمة اقتصادية، وطالب المحتجون بإنهاء حكم الرئيس عمر البشير الذي استمر 30 عاما.

وفي الحادي عشر من أبريل نيسان أطاح الجيش بالبشير ثم ألقى القبض عليه معلنا تشكيل مجلس عسكري انتقالي، لكن الاحتجاجات استمرت وطالب المحتجون بأن يقود المدنيون الفترة الانتقالية. وبدأ المجلس العسكري وتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير محادثات سرعان ما وصلت إلى طريق مسدود بسبب الخلاف على تشكيل مجلس سيادي يدير الفترة الانتقالية. وفي فجر الثالث من يونيو حزيران تحركت قوات الأمن -التي قال شهود إن قوات الدعم السريع كانت تقودها- لفض اعتصام للمحتجين خارج مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم. وقال أطباء مرتبطون بالمعارضة إن 128 شخصا قتلوا في فض الاعتصام وفي أعمال العنف التي تلته. وأكدت الحكومة مقتل 61 شخصا.

وانهارت المفاوضات ثم استؤنفت بعد عدة أسابيع تحت ضغط وسطاء بقيادة أفريقية وكذلك بعد احتجاجات حاشدة يوم 30 يونيو حزيران. وأعلن اتفاق لتقاسم السلطة في الخامس من يوليو تموز. ويتكون المجلس العسكري من سبعة أعضاء بقيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان. ومع ذلك فإن أبرز أعضائه هو نائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو الذي يقود أيضا قوات الدعم السريع والمشهور بحميدتي.

وتربط كل من البرهان وحميدتي علاقات قوية مع السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ناتجة عن مشاركة السودان في الائتلاف الذي تقوده السعودية في اليمن. والقوة الدافعة في تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير هو تجمع المهنيين السودانيين الذي برز من خلال تنسيق الاحتجاجات ضد البشير. وليس للتحالف قائد أو تسلسل قيادي ثابت رغم أن من بين أبرز الأعضاء فيه محمد ناجي الأصم وأحمد الربيع.

ومن بين المكونات الرئيسية لتحالف القوى حزب الأمة الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي وثلاث من الجماعات المتمردة الخمس في السودان. يتبقى أن يوقع الجانبان وثيقة دستورية متممة للاتفاق السياسي. وسيفضي ذلك إلى تشكيل الهيئات الانتقالية ومن بينها المجلس السيادي الذي سيضم خمسة ضباط يختارهم المجلس العسكري وخمسة مدنيين يختارهم تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير ومدنيا آخر يتفق عليه الطرفان.

وكان مزمعا توقيع الاتفاق بعد أيام من إعلانه لكن الشكوك أحاطت به عندما طالب المجلس العسكري بحصانة قضائية. وهناك معارضة قوية للحصانة القضائية من جانب حركة الاحتجاج التي تشعر بالقلق أصلا إزاء كيفية ضمان إجراء تحقيق مستقل مع الجيش في أعمال العنف بينما يستمر في السلطة. ويواصل المحتجون تنظيم تجمعات لتكريم من قتلوا منذ بدء الاحتجاجات في ديسمبر كانون الأول ويطالبون بمحاسبة المسؤولين عن قتلهم.

ورفض بعض الأعضاء في تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير الاتفاق قائلين إنه لا يحقق توقعات المحتجين. وبصورة أعم، ترى قوات الأمن السودانية أنها الحاكم الطبيعي للبلاد وتريد حماية مصالحها الاقتصادية الواسعة. وقال مجدي الجزولي الباحث في معهد ريفت فالي إنستيتيوت ”ميلهم الطبيعي هو ألا يسلموا أي شيء... وأن تبقى لهم الكلمة الأخيرة في جميع أمور الدولة -وهو نفس الوضع الذي كان قائما في ظل البشير جوهريا“.

وهناك تاريخ حديث من الصراعات المدنية في مناطق بينها دارفور في الغرب وجنوب كردفان والنيل االأزرق في الجنوب. وهذه الصراعات يمكن أن تشتعل من جديد إذا استمر الاضطراب السياسي. ومن الممكن أن تزيد معاناة المدنيين السودانيين الذين يعيشون بالفعل في ظل أزمة اقتصادية يمكن أن تشتد. ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة فإن خمسة ملايين من بين السكان البالغ عددهم 44 مليون نسمة يحتاجون إلى المساعدات، كما أن هناك مليوني مشرد تقريبا. بحسب رويترز.

ويقع السودان في منطقة مضطربة من شمال شرق أفريقيا. ومن الممكن أن يكون للاضطراب فيه تأثير على جنوب السودان الذي تمزقه الحرب والذي شهد توقيع اتفاق سلام هش في سبتمبر أيلول، وتأثير على ليبيا إلى الشمال التي تصاعد القتال فيها في الآونة الأخيرة. ولدول الخليج الغنية مصلحة في السودان تعود إلى إمكانياته الزراعية وموانئه على البحر الأحمر. وتشارك قوات الدعم السريع بقوات في التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن. وتشعر الدول الأوروبية ومصر بالقلق إزاء التدفق المحتمل لأعداد كبيرة من المهاجرين شمالا من السودان الذي يقع على أحد طرق عبور المهاجرين المتوجهين إلى البحر المتوسط للوصول إلى أوروبا.

وفاء لشهداء الثورة

على صعيد متصل رفع المتظاهرون السودانيون لافتة تكرم من سقطوا قتلى خلال الاحتجاجات في ساحة خطب فيها الرئيس المعزول عمر البشير وسط تجمع حاشد في الأشهر الأخيرة له في السلطة في خطوة رمزية أبكت بعض الحاضرين. وتدفق آلاف المتظاهرين، أغلبهم لم يبلغوا العشرين من العمر أو في أوائل العشرينات، إلى الساحة وهي حشود ظلت تتزايد لوقت متأخر من النهار. وقال المحتجون إنهم غيروا اسم الساحة الخضراء إلى ساحة الحرية.

وفي أعلى المنصة الخرسانية المؤلفة من مستويين، التي لم يكن يسمح لغير البشير ورجاله بالظهور عليها، غطى شبان اللافتة التي كتب عليها الساحة الخضراء بأخرى تقول ”العدالة أولا.. وفاء لشهداء الثورة“. وتأتي المظاهرة في وقت لا يزال فيه المجلس العسكري وتحالف يمثل المحتجين وجماعات المعارضة يعملون على وضع اللمسات النهائية لاتفاق لتقاسم السلطة خلال فترة انتقالية تستمر ثلاث سنوات قبل إجراء انتخابات.

واستمر تجمع المهنيين السودانيين، الذي قاد احتجاجات استمرت عدة أشهر انتهت بالإطاحة بالبشير في أبريل نيسان، في الدعوة للاحتجاج على قادة الجيش الذين حلوا محل البشير مع سعي المحتجين للانتقال للديمقراطية. وقامت قوات الأمن، بما في ذلك قوات الدعم السريع، بحملات ضد المحتجين، وفي أوائل يونيو حزيران فضت اعتصامهم خارج مقر وزارة الدفاع مما أسفر عن مقتل العشرات.

وقال تجمع المهنيين السودانيين في بيان ”قوات المجلس العسكري تطلق الغاز المسيل للدموع لتفريق (الموكب)... المتجه إلى ساحة الحرية، نتوجه بالنداء لجميع الثوار بتسيير المواكب والتوجه إلى ساحة الحرية، كما نؤكد بأن الحق في التظاهر وتسيير المواكب حق مشروع ونحمل المجلس العسكري مسؤولية سلامة جميع الثوار“. لكن في الساحة ذاتها تمكن المتظاهرون من الاحتجاج بحرية واقتحم بعضهم مكتب مديرها.

وقال محمد آدم عربي مدير الساحة الذي انحاز للمحتجين ”هؤلاء الآن في الساحة شباب الثورة.. أتوا من أجل السودان وليس مثل الحشود التي كانت تأتي بالأموال المدفوعة“ في إشارة للحشود التي كان يجمعها البشير لحضور خطاباته. قال شاهد إن مجموعة من المحتجين دخلت الساحة وهي تحمل ما قالت إنه حذاء وخوذة مكسورة وهراوة تعود لجندي من قوات الدعم السريع. ورفعوا تلك المتعلقات عاليا وهم يتغنون بهتافات مناهضة لقوات الدعم السريع التي يتهمونها بإساءة معاملتهم وضربهم.

كما شوهدت أربع خوذات أخرى على الأقل تعود لقوات الدعم السريع والمتظاهرون يقذفون بها في الهواء بينما أمسك شاب بأحد دروع شرطة مكافحة الشغب وهو يلوح بعلامة النصر. وتختتم هذه المظاهرة سلسلة من المسيرات التي نظمها تجمع المهنيين السودانيين تحت شعار ”أسبوع العدالة أولا“ للمطالبة بالقصاص لمن قتلوا في الاحتجاجات. وهتف المتظاهرون ”الدم قصاد الدم.. لن نقبل الدية“.

وأقام البشير تجمعا في يناير كانون الثاني، قبل ثلاثة أشهر من إطاحة الجيش به واعتقاله، في الساحة الخضراء وصم خلاله حركة الاحتجاج بالعمالة لجهات أجنبية وتحداهم للسعي لتولي السلطة عبر صناديق الانتخابات. وقال وسطاء إن المفاوضات ستستمر بشأن الوثيقة الدستورية التي ستكون مكملة لاتفاق تقاسم السلطة. وقال علاء الدين بابكر، وهو مهندس يبلغ من العمر 24 عاما، لرويترز ”أنا سعيد بالاحتفال هنا... لن تكتمل الفرحة إلا بالانتصار في الإعلان الدستوري“.

حصانة قضائية

الى جانب ذلك قال متحدث باسم جماعة المعارضة الرئيسية في السودان إنها تعارض منح الحكام العسكريين حصانة ”مطلقة“ من احتمال محاكمتهم بسبب العنف ضد المحتجين، وذلك قبيل اجتماع مع المجلس العسكري. وتمثل الخلافات بشأن مسألة الحصانة إحدى النقاط الشائكة التي تعوق إبرام اتفاق تقاسم السلطة الذي جرى التوصل إليه بين المجلس العسكري الانتقالي وتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير.

وقال إسماعيل التاج، القيادي في تجمع المهنيين السودانيين العضو في التحالف، إن أعضاء التحالف اتفقوا على أن تكون الحصانة مقيدة. وقال التاج في مؤتمر صحفي في الخرطوم ”الحصانة التي جاء بها المجلس العسكري في هذه الوثيقة هي حصانة مطلقة“. وأضاف للصحفيين ”توافقت كل قوى الحرية والتغيير على مسألة الحصانة وتقييدها إجرائيا“.

وتتهم جماعات المعارضة قوات الدعم السريع، وهي قوات شبه عسكرية على صلة بالمجلس العسكري، بالمسؤولية عن مقتل ما يزيد على 125 محتجا أثناء حملة لفض اعتصام في الخرطوم في الثالث من يونيو حزيران وهجمات أخرى لاحقة. وأكد المجلس العسكري مقتل 61 في الهجوم وألقى بالمسؤولية في العنف على عدد من الضباط وتعهد بمحاكمتهم. لكن المجلس نفى أن يكون أي من أعضائه مسؤولا عن العنف. بحسب رويترز.

وقال التاج إن المحتجين ما زالوا يطالبون بتحقيق مستقل في إراقة الدماء التي أعاقت لبعض الوقت جهود التوصل إلى الاتفاق بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري. وأضاف أنه يتوقع حدوث انفراجة كبيرة خلال محادثات التي قال إنها ستركز على الملاحظات التي أبدتها المعارضة على الوثيقة الدستورية المقترحة. كما حث تجمع المهنيين السودانيين، الذي قاد الاحتجاجات ضد البشير، الحكام العسكريين على إلغاء مرسوم يمدد حالة الطوارئ لثلاثة أشهر.

اضف تعليق