q
تمثل التداعيات المالية للحرب الليبية لطمة أخرى لتونس التي كانت مصدر إلهام لانتفاضات الربيع العربي عندما أطاح التونسيون بزين العابدين بن علي في 2011، إلا أنه رغم الديمقراطية التي تعيشها تونس فإن التونسيين يعانون على المستوى المالي، وكان لتدابير التقشف وارتفاع التضخم وتداعيات هجمات متطرفين...

(رويترز) - وقف فتحي مارس وقد بدت عليه علامات اليأس في متجره الصغير بين مناضد تكدست عليها قمصان زاهية الألوان وسراويل جينز، قال فتحي إنه إذا استمرت الحرب فسيغلق المحل، وتتردد هذه العبارة كثيرا في بنقردان. فعلى مدى عشرات السنين ظلت هذه البلدة الواقعة على مسافة 35 كيلومترا من الحدود مع ليبيا في جنوب تونس الفقير مستودعا للبضائع سواء المهربة أو المستوردة.

غير أنه منذ الإطاحة بمعمر القذافي في 2011 قضى الصراع في ليبيا على حركة التجارة، فخلال السنوات الثماني الماضية أغلق نحو 700 متجر أبوابه مع تضاؤل الإمدادات وارتفاع الأسعار بشدة وفق ما تقوله جمعية محلية للتجار. ولا تزال هياكل الأكشاك تنتشر في شوارع المدينة وقد علا الصدأ الهياكل المعدنية الملتوية التي كانت تمتلئ في وقت من الأوقات بالبضائع المعروضة للبيع.

وتمثل التداعيات المالية للحرب الليبية لطمة أخرى لتونس التي كانت مصدر إلهام لانتفاضات الربيع العربي عندما أطاح التونسيون بزين العابدين بن علي في 2011، إلا أنه رغم الديمقراطية التي تعيشها تونس فإن التونسيين يعانون على المستوى المالي.

وتوضح بيانات البنك الدولي أن الاقتصاد التونسي انكمش بنسبة 13 في المئة بين 2011 و 2017 كما أن البطالة بين الشباب والتي كانت عاملا من العوامل التي أطلقت شرارة الثورة لا تزال عند واحد من أعلى مستوياتها في المنطقة إذ تبلغ نحو 35 في المئة، وكان لتدابير التقشف وارتفاع التضخم وتداعيات هجمات متطرفين إمن حين لآخر على السياحة والاستثمار الخارجي أثره الشديد مما أدى إلى اندلاع احتجاجات في ابريل نيسان في مدينة سيدي بوزيد بوسط البلاد مهد انتفاضة 2011، وكانت ليبيا فيما مضى بمثابة صمام لتخفيف الضغط بالنسبة للاقتصاد التونسي فكانت وجهة لألوف التونسيين الذين كانوا يتوجهون إليها كل عام للعمل ومصدرا للبضائع الرخيصة التي يمكن بيعها في الأسواق المحلية. غير أن العنف ألحق الضرر بحركة البضائع والناس.

مظالم محلية

منذ سنوات تتعرض ”سوق ليبيا“ في مدينة بنقردان لضغوط. والسوق عبارة عن شبكة من المتاجر المنخفضة تباع فيها الملابس وأجهزة التلفزيون والمايكروويف ولا يزال بعضها في صناديق عليها أسماء الشركات الليبية المستوردة.

وازدادت مشاكل السوق بعد أن شن خليفة حفتر قائد قوات شرق ليبيا (الجيش الوطني الليبي) هجوما في أوائل ابريل نيسان لانتزاع السيطرة على العاصمة طرابلس من أيدي جنود موالين للحكومة المعترف بها دوليا.

وقال تجار ومسؤولون في بنقردان إن القتال أوقف اتفاقا تجاريا بين تونس وليبيا كان من شأنه السماح للمسافرين باستيراد السلع الاستهلاكية بما قيمته عشرة آلاف دينار ليبي (7140 دولارا) بما يلغي القيود والحظر التعسفي الذي كانت تفرضه فيما سبق جماعات مسلحة ومسؤولون يمثلون الدولة الليبية على الواردات.

ففي الوقت الذي كان المسؤولون يعكفون فيه على وضع تفاصيل الاتفاق تفجرت حرب طرابلس الأمر الذي أدى إلى جمود المحادثات مع تركز الاهتمام في التجمعات السكانية التي تسيطر على طرق التجارة في غرب ليبيا على المعارك.

وقال فتحي عبعاب رئيس مجلس المدينة الذي شارك في المفاوضات التجارية إن سكان بنقردان يعتمدون على ما يحدث على الطرف الآخر من الحدود. وأوضح أنه تم التوصل إلى صفقة جديدة لكن الحرب تفجرت. ولم تنفذ الصفقة.

وفي غياب التنمية الاقتصادية التي تشهدها المناطق الشمالية السياحية في تونس يمثل جنوب البلاد أرضا خصبة لتجنيد المتشددين الإسلاميين. وفي العام 2016 حاول المتطرفون السيطرة على بنقردان بمساعدة متشددين محليين غير أن قوات الأمن التونسية أحبطت مسعاهم، ويقول اتحاد محلي للعمال إن أغلب البالغين في البلدة التي يبلغ عدد سكانها 100 ألف نسمة ليس لديهم وظائف منتظمة وإن التوترات تتزايد مع توقف دخل التجارة.

وعندما أغلقت ليبيا معبر رأس جدير الرئيسي بين البلدين لأكثر من شهرين في العام الماضي خرج سكان بنقردان للشوارع في مظاهرات، وقال ماكس جالين خبير العلوم السياسية الباحث في حركة التجارة والتهريب عبر الحدود في شمال أفريقيا ”إذا تدهور الاقتصاد الحدودي دون خلق أي مصادر بديلة للرزق فالمزيد من الاحتجاجات في المناطق الحدودية أمر مؤكد مثلما شهدنا مرارا في السنوات القليلة الماضية“، وأضاف أن هذه الاحتجاجات قائمة على سجل كبير من المظالم المحلية ”ومن المهم التعامل معها بجدية“.

موضة قديمة

على المستوى الإقليمي يهدد تجدد الصراع في ليبيا بتعطيل إمدادات النفط وزيادة حركة الهجرة عبر البحر المتوسط إلى أوروبا وإفساد خطط الأمم المتحدة لإجراء انتخابات بما ينهي التنافس بين حكومتين متوازيتين في ليبيا.

وليست تونس الدولة الوحيدة التي تضررت اقتصاديا. فقد اعتادت مصر إرسال العمال إلى ليبيا كما يقول رجال أعمال ليبيون إن تشاد والنيجر في الجنوب استفادتا في الماضي من حركة التجارة والتهريب، واعتاد التجار التونسيون الاستفادة من الفجوة بين الأسعار المرتفعة في السوق المحلية حيث رفعت الحكومة الضرائب والأسعار المنخفضة في ليبيا التي لا تفرض فيها رسوم استيراد أو ضرائب على البضائع كما أن أسعار الغذاء والوقود فيها مدعمة بشكل كبير، غير أن الواردات السلعية إلى تونس تتراجع منذ أكثر من ثلاث سنوات مع سعي الفصائل المتنافسة في ليبيا لكي تكون لها اليد العليا. وفرضت جماعات مسلحة تسيطر على الحدود وطرق التجارة رسوما من جانبها أو فرضت حظرا على الإمدادات.

وفي 2017 انخفض بشدة الدينار الليبي الذي يتعرض لضغوط من جراء الصراع الأمر الذي أدى لارتفاع الأسعار ودفع البنك المركزي لتخفيض سعر صرف العملة في المعاملات التجارية والخاصة في السنة التالية، وقال متعاملون في بنقردان إن كلفة استيراد السلع مثل السجاد التركي والسراويل المصنوعة في الصين من ليبيا تضاعفت في السنوات الثلاث الماضية، كما تأثرت شبكات تهريب البنزين بتشديد الرقابة على الحدود التونسية بهدف إبعاد المتطرفين وبحملة شنتها شركة النفط الوطنية الليبية لوقف التجارة غير المشروعة في الوقود.

بالإضافة إلى ذلك توقفت حكومة طرابلس العام الماضي عن دعم المواد الغذائية الأمر الذي خفض أرباح تهريب القمح والمعكرونة، وانخفضت الواردات برا من ليبيا إلى تونس لتصل إلى 3500 طن في أبريل نيسان هذا العام من 4188 طنا في ابريل نيسان 2010 وفق البيانات الجمركية التونسية، ولا تشمل هذه الأرقام حجم السلع المهربة الكبير عبر الحدود، وتوضح إحصاءات تونسية إن من المقاييس الأخرى لانخفاض حركة التجارة هبوط عدد المسافرين عبر الحدود إلى النصف تقريبا ليصل إلى 101978 مسافرا في أبريل نيسان 2019 مقارنة بالشهر نفسه في 2010، وفي كثير من الأحيان يسافر تجار من تونس لمدة يوم واحد إلى ليبيا لإبرام الصفقات، وفي بنقردان حاول فتحي مارس تاجر الملابس إحلال سلع من تركيا والصين ودول أخرى في شرق آسيا محل السلع الليبية لكنها كانت أغلى ثمنا ولا تصلح لنموذج ”سوق ليبيا“، وقال إن آخر مرة يحصل فيها على بضائع من ليبيا كانت قبل عامين مشيرا إلى بعض السراويل الجينز على منضدة.

اضف تعليق