q
لجوء ترامب إلى مغامرة عسكرية ضد إيران مستعبد، لأنه طلب التفاوض مع الإيرانيين، وكما أنه لجأ خلال السنتين الماضيتين إلى الوسائل الاقتصادية دون أي مواجهة ولو محدودة مع إيران، كما أنه لن يجازف بتكرار التجارب السابقة التي دشنها بوش الابن في العراق وأفغانستان، إذ كانت...

بعد أن ضيق ترامب الخناق على صادرات النفط الإيراني وإصراره لعدم منح أي إعفاءات لمستوردي نفطها من العقوبات، هددت إيران ببدء العد التنازلي للانسحاب من الاتفاق النووي (خطة العمل المشتركة) المبرم مع الدول الكبرى عام 2015، وذلك لقناعة إيران بعدم احترام الدول الموقعة لالتزاماتها، وهذا قد يكون صحيحا؛ لأن تلك الدول (روسيا، الصين، فرنسا، المانيا وبريطانيا)، لم تفعل شيء إزاء العقوبات الأمريكية ضد إيران بعد انسحابها من الاتفاق وباتت عاجزة عن انقاذ الاتفاق.

ورغم أن هذا التهديد لا يمتلك مفاعيل لتغيير المواقف، ولكن قد يعد إنذارا بتدشين إيران صناعة قنبلة نووية تعرض المنطقة لمزيد من عدم الاستقرار، وهنالك من يراهن كدول الخليج ممثلة بالمملكة العربية السعودية لدفع الولايات المتحدة لإسقاط النظام الإيراني انطلاقا من هذا التصعيد، إضافة إلى الضغوطات الاقتصادية، إلا أنه يعد رهاناً خطرا ولايتصل بالواقع بشيء، لأن إيران ليس من مصلحتها التصعيد والانسحاب من الاتفاق الآن، لأن الداخل الايراني غير متجانس تجاه ذلك، وهناك تفاوت باللهجة والموقف إزاء الأزمة، ولكن مايخدم الجناح الداعي للانسحاب هو التصعيد الأمريكي بعد إرسال حاملة الطائرات أبراهام لينكولن إلى مياه الخليج، وتشديد العقوبات الاقتصادية ضد إيران.

لكن كل هذا يطرح تساؤلات أساسية: هل يمكن تغيير النظام في إيران؟، وهل تشكل إيران خطرا حقيقيا وجوديا في المنطقة يستحق التدخل والتغيير؟، وماهي كلفة وثمن ذلك؟.

من المؤكد، أن إيران والمحكومة من سلطات دينية منذ 30 عاما، لها نفوذ إقليمي تحاول دون أدنى شك فرض نفوذها في المنطقة بالوسائل كافة، وخصوصا الوسائل الإيديولوجية والعسكرية غير المباشرة، لكن هل يستدعي ذلك شن حرب أمريكية خليجية ضد إيران؟ وهل هذه الحرب كافية لإسقاط النظام القائم فيها؟.

من الواضح، أن لجوء ترامب إلى مغامرة عسكرية ضد إيران مستعبد، لأنه طلب التفاوض مع الإيرانيين، وكما أنه لجأ خلال السنتين الماضيتين إلى الوسائل الاقتصادية دون أي مواجهة ولو محدودة مع إيران، كما أنه لن يجازف بتكرار التجارب السابقة التي دشنها بوش الابن في العراق وأفغانستان، إذ كانت تجارب مؤلمة لم تحقق أي انتصار عسكري أو سياسي، فكيف سيحقق نصرا على إيران المتمرسة؟، كما أن سيناريو دفع الحلفاء الإقليميون للنيابة عنها في خوض تلك الحرب مستبعد أيضا، لأنهم لن يتحركوا بدون مشاركة أمريكية مباشرة، وكما لهم في حرب العراق ضد إيران عبرة.

والأهم من ذلك، أن القيود الواردة على الحرب ضد إيران تتجلى بأن اللعبة تتقاذفها أطراف دولية متعددة أوروبية صينية روسية، وحتى إسرائيل وعلى الرغم من بروباغندا العداء المتصاعد ضد إيران لكنها بذات الوقت تشكل (إيران) أحد أهم عناصر الاستقرار لوجودها في المنطقة، فإسرائيل تستغل أنساق التطبيع وأجواء الدفء الذي يسود العلاقة بينها وبين بعض الدول العربية التي كانت تشكل مصدر القلق لوجودها، واستطاعت تغيير بوصلة العداء القومي لهذه الدول تجاه إيران، التي وظفت وتوظف كل قدراتها السياسية والاقتصادية ضد إيران.

فبعدما عرف بالربيع العربي تحول الصراع العربي الاسرائيلي الذي كان يمنح الانظمة العربية شرعية الحكم، إلى صراع عربي إيراني يمنحها تلك الشرعية، من خلال اعتبار إيران العدو الاستراتيجي الجديد الذي يؤمن الاستقرار الداخلي لها ويوفر أمامها فتح الأبواب للتحالف مع إسرائيل.

أما الولايات المتحدة تفكر كما تفكر إسرائيل تجاه إيران، فوجود التهديد الإيراني يسمح لها بالتغلغل في المنطقة، والحصول على مزيد من صفقات الأسلحة والطاقة من الدول التي تشعر بالخطر الإيراني بدل الخطر الإسرائيلي السابق، بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية، باستمرار الخطر والنفوذ الإيراني تسعى إلى خلق توازنات دقيقة في منطقة الشرق الأوسط عبر إيجاد معسكرين متنافسين: معسكر الدول الخليجية ومحاولة وضع تركيا ضمن هذا المعسكر، وآخر إيراني تعمل فيه واشنطن للحفاظ على حالة الصراع المستمر القائم على أوضاع اللا سلم واللا حرب مما يضمن لها مصادر النفوذ والتمويل.

أما إيران فهي تدرك جيدا أن الضغوطات والتهديدات والعقوبات العنيفة التي تتعرض لها من الولايات المتحدة وحلفائها، يعزز تماسك جبهتها الداخلية ويحكم الطوق على الأصوات المعارضة ويجهز على أي فرص للتغيير السياسي من الداخل رغم المتاعب الاقتصادية التي تواجهها، فهي تستفيد من حالة الصراع والعداء المستمر مع الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج في شرعنة خطابها السياسي تجاه الغرب وشرعنة توجهاتها المعروفة بمحور المقاومة للتغلب على الصراع الداخلي بين الأجيال: الراغبة بالتغيير والتحديث والعولمة ومظاهر الحياة الغربية من جهة، والأجيال الراغبة باستمرار الوضع على ماهو عليه من سيادة قيم الثورة الإسلامية والالتزام والمحافظة على السلطة التي يسيطر عليها رجال الدين من جهة أخرى.

لذلك من المستبعد أن يكون الخيار بين إيران والولايات المتحدة هو خيار المواجهة العسكرية المباشرة، لكن ذلك لن يمنع من حصول اشتباكات بين مصالح واشنطن وطهران في سوريا والعراق ولبنان واليمن، حيث الاوضاع هنالك وربطا مع معطيات الوضع الراهن، فإنها تعمل على مضاعفة حظوظ استمرار الحروب المفتوحة بالوكالة بين حلفاء كلا الطرفين.

باختصار أن إبقاء الوضع على ماهو عليه والاستمرار بجعل الصراع مشتعل وإدارة الأزمة يوما بيوم قد يناسب مصالح كل الأطراف بدءاً من إيران فالولايات المتحدة وإسرائيل مرورا بدول الخليج، وتبقى المشكلة الكبرى في المنطقة هي سيادة حالة الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني مغلفة بغطاء إيديولوجي يعطي شحنات لهذا الصراع الذي تعيشه المنطقة منذ سنوات طويلة، وقد تستمر أطول مما مرت به.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2019Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق