q
سيرة النبي محمد في مجابهة العنف والعفو عن الآخرين والتعامل الإنساني مع اشد الخصوم واحتواء المخالفين، كلها قيم انسانية طرحها النبي محمد من تحقيق مبدأ السلام بين الحضارات والقيم والأديان والثقافات بدلاً من اشعال فتيل الصراع، وقد خاطب الباري نبيه بقوله (وانك لعلى خلق عظيم)...

الى جانب نظريات أخرى، طرح الغرب نظرية "صدام الحضارات" او "صراع الحضارات" التي تقول ان الصراعات "لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية المحرك الرئيسي للنزاعات بين البشر في السنين القادمة"، فيما ركز مؤلف هذه النظرية "صامويل هنتنجتون"، على الإسلام وقال بأن "حدوده دموية وكذا مناطقه الداخلية"، معتبراً ان الصراع القادم سيكون بين "العالم المسيحي" بقيمه العلمانية من جهة، و"العالم الإسلامي" من جهة أخرى، وقد آمن بهذه النظرية "اليمين المتطرف" وروج لها كثيراً واعتبرها النهاية الحتمية لاختلاف الثقافات بين الحضارات.

كما طرح الغرب "النظرية الليبرالية" خصوصا في مستواها الاجتماعي، والتي تضمنت احترام الحرية الفردية والتركيز على نشر القيم الغربية والتحرر من الكثير من القيم التي قد تؤدي في نهاية المطاف الى مواجهة او صدام مع الأديان او المنظومة الأخلاقية للكثير من المجتمعات البشرية.

يؤكد الباحث في الفكر الإسلامي، سماحة الشيخ مرتضى معاش ان "الكثير من التوترات التي يشهدها العالم اليوم هي نتيجة لتأثير هذه القيم السلبي على الكثير من المجتمعات، حيث أدى نشرها الى انحرافات أخلاقية واجتماعية وإنسانية".

واعتبر معاش "ان اليمين المتطرف تلقف هذه النظريات في محاولة منه لتأسيس خلافات جوهرية بين الحضارات او البشر وصل الى حد اعتبارهم مختلفين عن الاخرين، وان الغرب لا يمكن ان يتفاهم مع الإسلام او مع الشرق او الحضارات الأخرى (كالصين مثلاً)، وقد أدى هذه التوجه الى التأسيس لصدام الحضارات وبناء الجدران او العزلة والعودة الى الدولة القومية".

وعلى العكس من هذه النظريات، يشير سماحة الشيخ مرتضى معاش الى الإسلام ونظرياته "تقوم على مبدأ (وما ارسلناك الى رحمة للعالمين) وقوله تعالى (وما ارسلناك الا كافة للناس) وقوله تعالى (يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير)، ومعنى هذا ان الإسلام رسالة تواصل وسلام ورسالة اتصال بين الحضارات بل رسالته تقوم على نظرية (السلام بين الحضارات) التي تحتاج منا بذل المزيد من الجهد لتطويرها والترويج لها حتى نستطيع تأسيس مجتمع بشري تعددي متنوع ومتعايش وآمن ومسالم".

رسالة المبعث النبوي

ان سيرة النبي محمد (صل الله عليه واله وسلم) في مجابهة العنف والعفو عن الآخرين وكظم الغيض والتعامل الإنساني مع اشد الخصوم واحتواء المخالفين، كلها قيم انسانية طرحها النبي محمد (صل الله عليه واله وسلم) من تحقيق مبدأ السلام بين الحضارات والقيم والأديان والثقافات بدلاً من اشعال فتيل الصراع، وقد خاطب الباري (عز وجل) نبيه الكريم بقوله (وانك لعلى خلق عظيم) وهي اشارة الى ان "سلام الحضارات" قائم في جوهره على "الاخلاق" وبناء المنظومة الأخلاقية في داخل الانسان والتي استطاع من خلالها النبي محمد (صل الله عليه واله وسلم) تحقيق ما وصل اليه من منجزات إنسانية خالدة عبر التاريخ.

الاخلاق هي من تبني المجتمعات وتحدد استقامتها وهي من تبني الانسان السوي الخالي من العقد النفسية والانحرافات، وهي جوهر نظرية "سلام الحضارات" التي يمكن من خلالها صناعة السلام بين الأمم والحضارات والأديان والثقافات المتنوعة بخلاف نظرية "صدام الحضارات" التي قامت في جوهرها على "الصراع" بين الحضارات وصدام المختلفين في كل شيء تقريباً وبالتالي فان الحرب والدمار هو نتيجة حتمية بين بني البشر، اما نظرية "الليبرالية الاجتماعية" فهي الأخرى تؤدي في نهاية المطاف الى انحرافات اجتماعية خطيرة لا يمكن السيطرة عليها نتيجة ايمانها بالحرية المطلقة من أي قيد او شرط للإنسان، لذلك نحن بحاجة الى نظرية وسطية قائمة على الاعتدال (كنظرية سلام الحضارات) التي طرحها الإسلام وطبقها النبي محمد (صل الله عليه واله وسلم).

ميثاق عالمي

في حقيقة الامر نحن بحاجة الى ميثاق عالمي لبناء السلام بين الحضارات تزامناً مع يوم بعثة النبي محمد (صل الله عليه واله وسلم) يقوم على الانصاف والمصلحة المشتركة والابتعاد عن النزاعات والحروب والهيمنة على الموارد، ومكافحة ظاهرة العنصرية التي تتجلى في أحد اهم صورها بالشعور الغربي او بعض الامم بالتفوق على الاجناس الأخرى.

لابد لنا ان نعتقد ونطبق مبدأ المساواة بين البشر من اجل الذهاب نحو سلام عالمي يوفر لنا الكثير من الفرص الإيجابية، فبخلاف اعتقاد البعض بان أسلوب الهيمنة والغلبة على الاخرين هو من يوفر الفرص والافضلية، سوف يؤدي الى ضياع الكثير من الفرص والارباح من الجميع بعد خسارتهم في معركة صفرية لا رابح فيها وهو ما يواجهه العالم اليوم في قضايا كثيرة مثل الحرب التجارية والكوارث البيئية وتزايد الهجرة والنزوح والأزمات المالية العالمية...

نحتاج الى عملية بناء ميثاق عالمي قائم ايضاً على تطوير الانسان ومهاراته، وتكافؤ الفرص ومساواتها متاح للجميع على اعتبار ان الانسان الجاهل هو انسان غير قادر على العطاء وبذلك يعيش حياة الفقر والشقاء ويكون عالة على الآخرين.

كما ان احترام موارد الأرض وعدم استنزاف الكرة الأرضية واستهلاكها بهذا الشكل الرهيب في الوقت الحاضر هو جزء أساسي من السلام المنشود بين المجتمعات البشرية ومع الطبيعة التي ينبغي احترامها لتحقيق السلام البيئي وتجنب الكوارث المتزايدة نتيجة الاستهلاك المتزايد لمواردها من دون ضوابط او حدود.

كما ان الانحرافات الأخلاقية التي ترسخت وزادت بعنوان الحريات الشخصية خطر كبير جداً لابد ان نؤسس في مقابلها قيم أخلاقية مستقيمة نابعة من الفطرة الإنسانية السليمة وبالتالي نستطيع ان نؤسس عالما سليما لنستطيع درء مخاطر العالم المشوه والشاذ وهو عالم خطير جداً لأنه يؤدي الى توترات وامراض نفسية تدمر البشرية وفطرتها السليمة.

ومما يؤسف له وجود هذا الخلل الفكري القائم على الانغلاق الذاتي في التفكير والذي يولد مجموعة من الأوهام لدى الناس ضمن حدود المعرفة الضيقة والتي تسبب النزاعات والصراعات، لذا ينبغي العمل على تأسيس الحوار الفكري المفتوح والمعتدل حتى يتعارف ويتفاهم الناس فيما بينهم للوصول الى الأفكار المشتركة البعيدة عن الانعزال والتعصب والتحزب وبالتالي تحقيق السلام العالمي.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2019Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق