q
انتهت الحرب الداخلية-الأهلية في العراق والقت الاطراف المشاركة فيها كل ما في ترسانتها الطائفية من تخزينات الموروث من حقب الصراعات التاريخية والسياسية بعد ان امتثلت في سلوك الكراهية الذي شكل سمة امتيازها اعتقادات شحنت طائفيا بضرورة بتر الطرف الآخر في المعادلة العراقية، وأخيرا أدركت هشاشة...

انتهت الحرب الداخلية-الأهلية في العراق والقت الاطراف المشاركة فيها كل ما في ترسانتها الطائفية من تخزينات الموروث من حقب الصراعات التاريخية والسياسية بعد ان امتثلت في سلوك الكراهية الذي شكل سمة امتيازها اعتقادات شحنت طائفيا بضرورة بتر الطرف الآخر في المعادلة العراقية، وأخيرا أدركت هشاشة أفكارها الطائفية وانتبهت الى عمق الوهم وجذره الذي كرسته المؤسسات السلطوية في تاريخ وحياة المجتمعات الاسلامية وحشرت الضمير الاسلامي في خارطة الجرح الطائفي.

لقد كانت الحرب الداخلية وفي بعض معادلاتها التاريخية والسياسية تشكل طفرة نوعية نحو السلم الأهلي وضرورته، وهي المفارقة التي تنتجها الحرب الداخلية في الكثير من الوقائع والاحداث التي عصفت بالبلدان التي ذاقت ويلات هذه الحروب، وتمكنت في بعض تجارب هذه البلدان من ازاحة تراكمات سياسية واجتماعية تولدت عن عقود طويلة أو قرون من سياسات النبذ والتهميش والاكراه المتبادل احيانا والمرتبط غالبا بأحادية طرف ما.

لقد احتفظ اللبنانيون بذكرى وبقايا الباص الذي أحرقته وركابه رصاصات الترسانة الطائفية لتحترق في أعقابه كل لبنان في تلك الحرب الأهلية التي لم تكف عن ذر رمادها على امتداد الارض اللبنانية، لكن لبنان اتقت خطورة هذا الرماد وحمت عيونها من اثاره حين اعتصمت الذاكرة اللبنانية ولاذت بموقف الباص وبقاياه التي ظلت تذكرهم بمأساة الحرب والتحذير المستمر لهم من معاودة اللعب على الحس الطائفي، ذلك الوتر الذي اذا عزف دق ناقوس الخطر، وهكذا احتفظت الذاكرة اللبنانية برصيدها من المفارقة التي تنتجها الحروب الداخلية في التحذير من معاودتها وأهمية انجاز السلم الأهلي، ومنذ تلك اللحظة في الاطلالة المتفحمة للذاكرة اللبنانية والتي رسمت خطوط الطول والعرض فيها ببقايا ورماد الباص المتفحم لم تجازف الارادة اللبنانية في تحريك ادوات الحرب الطائفية لكنها ظلت عالقة في أزماتها ولم تتغلب على نتائجها في تشظيات الهوية الوطنية، وشغلت اسرائيل وتهديد الامن اللبناني والحرب الداخلية السورية الأخيرة والتوظيف الإقليمي الطائفي لها دور التصعيد للأزمة اللبنانية الداخلية التي أعاقت لبنان دولة ومجتمعا عن تجاوز بقايا الحرب الاهلية في الأزمة الطائفية التي تسببت عنها هذه الحرب رغم التمسك بالحذر والخوف من معاودتها.

ويظل التصميم الواعي في هندسة الهوية الوطنية والتخطيط التعبوي في بناء الذات الاجتماعية وسياسات العدل الاجتماعي والقانوني هي الكفيلة بتجاوز بقايا وآثار النزاعات الأهلية والحروب الداخلية، فآثار هذه الحروب ومخلفاتها النفسية والاجتماعية تظل ماثلة ومؤثرة وتمارس شرخا خطيرا في الهوية الوطنية ان فقدت الدولة وادارة الحكم فيها خطط البناء الوطني والتطوير الاقتصادي والتنموي، فاللحمة الوطنية تتكفل بها برامج النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة في الدولة الحديثة، وهي شرط دخولها في ميدان التفاعل الايجابي على المستوى الاقليمي ومن ثم الدولي، وهي بنفس الوقت شروط السلم الأهلي والأمن الإقليمي.

وقد تطورت تلك الشروط الى قواعد الحماية للأمن الداخلي الذي صارت تنعكس آثاره على المستوى الدولي فالدول التي تعاني شرخا في تشكيل الهوية الوطنية تصنف دوليا كاقتصاد متخلف وفاسد ونظام سياسي فاشل وساحة أو فرصة للتدخلات الأجنبية الدولية والاقليمية ومن ثم تتحول الى ازمة دولية تستعصي على الحل، ويتطور الخطر فيها أو منها اقليميا ودوليا وأخيرا تهدد السلم العالمي لاسيما بعد ظهور موجات الفكر المتطرف والأصولي والذي لا يقف عند حدود دول معينة او محددة بل تحول الى أزمة دولية وكارثة انسانية مسؤولة الى حد بعيد عنها الحروب الأهلية الداخلية ذات المنحى والنهج الطائفي والتي بدأت في تلك الدول الفاشلة سياسيا والفاسدة ماليا واداريا، وهو مؤشر استبياني عن الخطر الناجم عن الحرب والكراهية الطائفية مثلما كان الخطر الناجم عن استغلال النازية للكراهية العرقية في تأجيج الحرب الكونية الثانية.

وهكذا نجد مدى التهديد الذي تختزنه الحروب الأهلية المتسببة طائفيا أو عرقيا على السلام الدولي حتى وان كفّت الأطراف المشاركة عن الاستمرار فيها ومالت الى السلم أو الى القناعة بعدم جدواها والحذر من آثارها المدمرة، لكن هذا الموقف قد يتحول الى لحظة عابرة أو هدوء يسبق العاصفة او انتظار فرصة سانحة في خوض هذه الحرب مرة أخرى في ظل مضاعفات الأزمة في المنطقة وتداعيات التدخلات الدولية والاقليمية المستمرة والتي تعتبر بالنسبة الى هذه الدول الكبرى جزء من سياساتها الاستراتيجية والخارجية.

مما يؤشر أهمية تصاميم الوعي الوطني في الدول المعرضة أو التي تعرضت لهذه الاهتزازات على صعيد الهوية الوطنية وظهور أيدولوجيات الهويات الفرعية التي جعلت في منظورها وأهدافها التنسيق وفق الرؤية الاميركية في إعادة ترتيب خارطة دول العالم العربي والاسلامي بترسيم حدود الطائفية والعرقية وتغليب مفهوم وثقافة الهويات المحلية والفرعية على مفهوم وثقافة الهوية الوطنية وهو ما يسمح لنا بتسميتها بخارطة الجرح الطائفي.

لقد كان واضحا مشروع الترسيم الجديد في هذه الخارطة المبتكرة ومعبرا عنه في سياسات التدخل الاميركي غير المحايدة في أزمات المنطقة وفي التسميات الطائفية التي يؤكد المسؤولون الاميركيون على استخدامها في تصريحاتهم الرسمية، ونلاحظ حجم غياب تسميات الشعب والمجتمع لديهم في الحديث عن دولنا ومنطقتنا ويعمدون في هذا الاسلوب السياسي الى نكأ الجرح الطائفي المخزون في موروثنا وتبرير مشروعية الطرح الطائفي في نظريات التعددية الثقافية ذات المنشأ الاميركي ولحساب تفتيت الهوية الوطنية في دولنا ومنطقتنا مع تأكيدنا على التجاوزات والانتهاكات التي تعرضت لها تلك الهويات والجماعات المختلفة دينيا ومذهبيا وثقافيا على يد الأنظمة الدكتاتورية والطائفية في عالمنا العربي والتي أربكت المسار السياسي والاجتماعي للدولة الوطنية ومن ثم أربكت تكوينات الهوية الوطنية وسمحت للترسانة الطائفية ان تملأ الفراغ الوطني بالشحن والولاء الطائفي، والذي استثمرته الولايات المتحدة الاميركية لتعزز من سياسات وأساليب التجزئة والتعددية ذات المضامين المشوهة والاشكال المربكة للسلم للأهلي والسلام الاقليمي ومن ثم الدولي.

لقد أنتجت سياسات الولايات المتحدة في المنطقة أو دعمت امكانية التهشيم الداخلي للهوية الوطنية في الدول التي تواجدت فيها سياسيا وعسكريا وفوضت الحرب فيها الى أمراء الطوائف، وعلى أقل تقدير فإنها لم تستغل ثقلها السياسي والاقتصادي والعسكري في منع هذه الحروب وكان مفترض بها أن تراعي جانبها الحضاري كدولة عظمى في أداء مسؤولياتها الاخلاقية التي طالما تبجح بالحديث عنها المسؤولون الاميركيون، أو مراعاة وظيفتها القانونية - الدولية كدولة محتلة، بل ان هيمنتها على القرار الدولي أدى الى ارباك الموقف الدولي بصورة عامة وجعلته مترددا في اتخاذ قرارات حاسمة بشأن مصائر هذه الدول التي تعرضت الى انهيار انظمتها السياسية ونتجت عنها الفوضى السياسية والاجتماعية، والتي يبدو أنها كانت متعمدة في المشروع الأميركي حين وصمتها الرؤى الاميركية بالفوضى الخلاقة التي فاجأت العالم بمأساة الحروب الطائفية في المنطقة وجرائم الارهاب العابر للحدود في العالم، وقد تمددت هذه الفوضى دوليا في اختراق خرائط الدول الذي مارسه التطرف الفكري وهدد بتوزيع الفوضى في كل انحاء العالم مما جعل العالم لاسيما الحديث يقف امام مسؤولياته بشكل مباشر لكنه ظل يفتقد الى الجدية الكاملة والرصينة أو المطلوبة في مواجهة التنظيمات الجهادية والارهابية.

ولم يفلح التحالف الدولي الذي شكلته وقادته الولايات المتحدة الاميركية وبعضوية دول غربية وبعض دول عربية من القضاء الكامل على تلك التنظيمات مما عكس موقفا دوليا واقليميا متسامحا بل ومتواطئا مع تلك التنظيمات والجماعات الجهادية المتطرفة لاسيما وأن تجارب ووثائق مسبقة كشفت عن هذا التحالف المضمر واحيانا شبه المعلن بين تلك الدول الكبرى اقتصاديا وعسكريا والدول العربية الغنية نفطيا والمجموعات الإرهابية، وتسعى هذه القوى مجتمعة لاسيما الولايات المتحدة الاميركية الى تكريس خارطة الجرح الطائفي على امتداد العالم الاسلامي.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2019Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق


التعليقات

الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
أحبائي
الإستعمار هو المستفيد من اشعال الفرقة الطائفية
ولو نظرنا حولنا لن نجد أى صراع بين الكاثوليكية والبروتستانتية
ونحن كثيرا ما يقع بعضنا في الفخ ويؤجج صراعا نحن في غنى عنه كأمة اسلامية
وأنا شخصيا ادعو الله العلى القدير أن يجنبنا شر الفرقة والفتن ويؤلف بين قلوبنا بمحبة حقيقية
أحبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم الى حسن الحديث وآدابه....واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات.....مركز ثقافة الالفية الثالثة2019-02-22