q

حتّى اذا وصلنا بالحديث الى جريمة العصر، وهي أُمُّ الجرائم التي ارتكبها نظام الطاغية الذليل صدام حسين، واقصد بها إعدام الفقيه والمفكّر والمرجع والفيلسوف والحركي والقائد اية الله العظمى الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر وأخته العالمة والكاتبة والمربّية الفاضلة العلويّة (آمنة الصدر) المعروفة بـ (بنت الهدى) يعتصرُ القلب ألماً ويفيضُ الدّمع من مقلتيه حسرةً ويكلّ الّلسان عن النطق عجزاً والقلم عن التّدوين والمداد عن الّتسجيل نفاذاً.

لقد ارتكب النظام البائد اعظم جريمة بقتلهِ للشهيد، ليس بحقّ العراق فحسب، وانّما بحقِّ الانسانية جمعاء، لانّ شخصيةً مثل الصدر الاول لم يكن يُنتج ويكتب للعراقيين فقط وانما عمَّ خيرَ كتاباته كلّ البشرية، ولذلك لا تجد شعباً من شعوب الارض لم يهتم مفكّروه بما أنتجه هذا العلم العالِم الرّمز.

كم هو سفيهٌ وسخيفٌ وأرعنٌ ذاك الطاغية الأهبل الذي ارتكب مثل هذه الجريمة، في إطار تصفيةٍ مُمنهجةٍ للعلم والعلماء، في الوقت الذي كان فيه الشهيد في قمّة إنتاجه المعرفي والفكري.

انّ كلّ صفةٍ من صفات الشهيد الصدر، والتي ذكرتها في صدر المقال، تحتاج الى عدّة مجلّدات لاستيعابها واستيفاءِ حقّها ومدلولاتها، وانا هنا لست في وارد الحديث عنها فتلك مسؤولية تلاميذه الاوفياء الّذين اتمنى عليهم ان يهتموا بتراث الشهيد بِما يليق به، بحثاً وتحقيقاً وتعريفاً ونشراً.

كما انّ من مسؤولية تلميذات الشهيدة بنت الهدى تسليط الضّوء على سيرتها ونتاجها المعرفي والأدبي للاجيال الجديدة.

انّما اريدُ هنا ان اتحدّث عن جريمة النظام والفكر القومجي العروبي العنصري والطائفي الشوفيني، الذي واجه العلم والعلماء منذُ لحظة ان نزا فيها على السّلطة في بغداد بسرقةٍ مسلّحةٍ (انقلاب عسكري) ليلة ١٧ تموز ١٩٦٨ المشؤومة.

انّ من طبيعة الحاكم الجاهل معاداة العلماء، فالعلمُ يفضحُ الجهلَ كما يفضح النور الظلام، ولذلك قيل (العلمُ نورٌ) فهل رايتم خفاشاً يطيرُ في النهار؟!.

ولذلك فقد صبَّ النظام البوليسي البائد جامَّ غضبه على العلم والعلماء منذ اللحظة الاولى، فشنَّ اقسى حملات التنكيل بهم وفي خطته القضاء نهائياً على المؤسسة الدينية بشكلٍ كاملٍ، فبدأ بالتّهمة لينتهي بالتصفية الجسدية!.

فكان ان اتّهم الشهيد السيد مهدي الحكيم، نجل مرجع الطائفة الامام الحكيم، للنّيل منه، ساعياً لاعتقالهِ وتصفيتهِ، الامر الذي اضطره للهجرة الى خارج العراق، بعد ان حُكم عليه بالإعدام غيابياً، حتّى تمكّنت منه يد الغدر لتغتالهُ في العاصمة السودانية الخرطوم عام ١٩٨٦.

وفي نفس الوقت اعتُقل الشهيد السيد حسن الشيرازي الذي تعرّض لأقسى انواع التعذيب النفسي والجسدي، ليُطلق سراحه بعد فترة بفضل من الله تعالى، ليهاجرَ هو الاخر الى خارج العراق، لتمتدّ لَهُ يد الغدرِ، كذلك، في بيروت عام ١٩٨٠ وهو في طريقهِ لحضور مجلس الاربعين الذي كان قد اقامه على روح الشهيد الصدر الاول.

في هذه الأثناء، يشنّ النظام الجاهلي حملة مطاردة واعتقال شعواء ضد العلماء والفقهاء، شملت المرجع الشيرازي الراحل و (١٢) من تلامذتهِ، بينهم الأخوين المدرّسي [آية الله السيد محمد تقي والعلامة السيد هادي] ليحكم عليهم بالإعدام غيابياً ما اضطرهم للهجرة الى خارج العراق، فيما اعتقل مجموعات اخرى منهم الشهيد الصدر الاول وعدد من تلامذته، ليقدم، فيما بعد، على جريمته البشعة بإعدام الشّهداء الخمسة (الشيخ عارف البصري ورفاقه) والمعروفون بمجموعة (قبضة الهدى).

وتستمر قافلة الشهداء من العلماء والفقهاء والمراجع، لتشمل كوكبة كبيرة منهم، لو اردنا ان نحصي عددهم وندوّن اسماءهم وسِيرَهم لاحتجنا الى مجلّدات كثيرة.

فقد شمِلت القافلة كوكبة من ابناء الأسر العلميّة العريقة التي خدمت العراق والدين والمذهب قروناً عديدة كأُسَر (الحكيم والصدر وبحر العلوم والخرسان والحيدري والقزويني) وغيرهم الكثير.

وقد كان لأسرة مرجع الطائفة الامام السيد محسن الحكيم، حصّة الأسد من قافلة الشهداء اذ ناهز عددهم الـ (٧٠) شهيدا!، فيما ناهز عدد الشهداء من أسرة آل بحر العلوم الـ (٢٠) شهيداً.

كما قدّمت أسرة (آل الصدر) اثنين من أعاظم العلماء والفقهاء، الا وهما الصدر الاول والصدر الثاني، الذي اغتيل مع نجليه الشهيدين كذلك!.

ان قوائم الشّهداء السّعداء من العلماء والفقهاء والمراجع، دليلٌ واضح على مدى حقد النظام العروبي القومجي العنصري والشوفيني على العلم والمعرفة، وكذلك على مدى حقدهِ على العراق والشعب العراقي الذي خسرَ مجهوداً علمياً ومعرفياً كبيراً جداً بغياب هذه الكوكبة من علمائه، الذين بذلوا وقتاً ثميناً وطويلاً قضوه في طلب العلم والبحث والتحقيق والاجتهاد منذ نعومة أظفارهم، ليقدِم على تصفيتهم الطاغوت بلحظةِ جنونٍ وتكبّرٍ وخوف!.

كما ان حجم القافلة وسعتها دليلٌ واضحٌ على ان العلماء في مقدّمة مسيرة الجهاد والبناء دائماً وأبداً، يتصدّون ويقودون ويوجّهون ويرشدون ويضحّون بأنفسهم وأرواحهم كلما تطلب الموقف الجهادي، لا يشكّون ولا يتردّدون ولا يتخلّفون، يرفضونَ الخضوع والخنوع والاستسلام والسّكوت والصّمت واتخاذ موقف المتفرّج من الحاكم الظّالم والسلطة الجائرة.

وفي المرجعية الدينية العليا اليوم ومواقفها وتوجيهاتها وارشاداتها ومتابعتها ومراقبتها وتشخيصها، نموذجٌ لهذا التّصدي المسؤول، والذي يفتخر به القريب والبعيد، لما لَهُ كلّ الأثر في حماية العراق وحفظ شعبه الابّي الصابر.

ولو كانوا غير ذلك لما انتبه لهم النظام الديكتاتوري، او انّهم كانوا وعّاظاً للسلاطين او فقهاء تحت الطلب، لما لمِس منهم الطّاغية شعرةً، بل لأغدقَ عليهم كلّ ما يحتاجون من الحياة الدنيا وزبرجها، ولاشترى مواقفهم وفتاواهم بحفنة تافهة من المال الحرام، كما هو الحال معَ من باع آخرته بدنيا غيرهِ من علماء السّوء والعمائم الفاسدة والمنحرفة، سوداءَ كانت او بيضاء، لا فرق!.

انّها العنصريةّ والطّائفيّة المقيتة التي كانت تسكن في عقل النظام الشمولي البائد وطريقة تفكيره المريضة، والتي خسِرَ العراقُ بسببها الكثير أقلّها ان يكون مصدر إشعاعٍ فكري ومعرفي وثقافي رائد للعالم، والمنطقة على وجهِ التّحديد.

وسقطَ الصنمُ في مزبلة التاريخ

ففي مثل هذا اليوم (٩ نيسان) من عام ٢٠٠٣، استجاب الله تعالى لدعوات ملايين المظلومين وتوسّلات الايتام والثّكالى وتضرّع الامّهات المفجوعات والآباء المفجوعين، ليزيحَ عن صدر العراق وكاهلهِ واحداً من أخطر النّظم السياسية التي مرت في تاريخه.

فلقد تجلّت في تلك اللحظة إرادة الله عزّ وجل بقوله عزّ من قائل {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} وقوله {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ} وقوله {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ}.

وصدق امير المؤمنين عليه السلام الذي قال {يَوْمُ الْعَدْلِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَومِ الْجَوْرِ عَلَى الْمَظْلُومِ!} وقوله {يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ}.

وبينما كان العراقيون يبتهجون بالتّغيير، اذا بهم يُفجَعون باخبار المقابر الجماعيّة التي بدأوا يكتشفونها الواحدة تلو الاخرى، لتجدد عليهم الآلام مرّة أخرى وتُثير الأوجاع في قلوبهم.

مع كلّ ذلك، فقد بدأ العراقيون يلملمون جراحهم ويعضّون عليها أملاً بمستقبلٍ جديد يتجاوز مخلّفات الماضي ويستفيد من تجاربه.

ولكونهم أرادوا تغييراً جذريا وحقيقياً وتاريخياً يلغي، اولاً وقبل كل شيء، القاعدة البائسة التي بُنيت عليها الدولة العراقية الحديثة مطلع القرن الماضي في إطار اتفاق (كوكس ــ النقيب) سيّء الصيت على قاعدة (عسكري عربي سنّي) تغييراً يعتمد نظاماً يقوم على أساس الأغلبية السياسية والتداول السلمي للسلطة والحياة الدستورية ومبدأ القانون فوق الجميع لضمان المساواة والعدل، من اجل الغاء الدرجات في (المواطنة) لانّهم أرادوه كذلك، فقد واجههم ثلاثة أعداء من خارج الحدود تكالبوا عليهم يريدون تكسير عظامهم، بعد ان نهشَ نظام الطاغية لحومهم؛

العدوّ الاول؛ هو نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربية، والذي رأى في سلطة الأغلبية خطراً محدقاً يهدّد شرعيّته ويمكن ان يقلب الطاولة على رأسه، ولذلك شمّر هذا النظام الوراثي القبلي عن ساعديه وكشّر عن انيابه التي تقطر حقداً ودماً، باذلا كل ما يمكنه من اجل تدمير البديل السياسي المرتقب، فصدرت فتاوى التكفير من فقهاء البلاط لتحث الجراثيم والدواب للتجمع في العراق ليبدوا عمليات القتل والتدمير بشكل واسع جدا، مدعومين بأموال البترودولار الحرام والاعلام الطائفي الحاقد.

العدو الثاني؛ هم كل أيتام الطاغية الذليل صدام حسين في العالم العربي والإسلامي من الذين خسروا عطاياه السخية من اموال الشعب العراقي والتي ظل يغدق بها عليهم ليصنع منهم ابواقا ملأت السماوات والأرضين.

ولعل من اكثر دول الجوار التي فيها من هؤلاء الايتام التافهين هي الاْردن، ولذلك كانت الأقسى على العراق بعد نظام القبيلة، ملكا وحكومة وشعبا وكل شيء.

العدو الثالث؛ هم دول الجوار بشكل عام، والتي ايدت الولايات المتحدة الأميركية وحليفاتها بقرار استخدام القوة لاسقاط النظام البوليسي في العراق، وعلى راسها سوريا التي كانت وقتها تمثل المجموعة العربية في مجلس الأمن عندما اتخذ كل القرارات المتعلقة بملف العراق، الا انهم. دول الجوار، غيرت رايها عندما شعرت ان تغييرا حقيقيا يجري الإعداد له في العراق، وليس مما كانوا يتصورون، تغييرا شكليا يستبدل وجوها باخرى مع الاحتفاظ بالقاعدة الثلاثية الآنفة الذكر، ولذلك اتّحد الأعداء وتعاونوا على العراق لتدميره وإيقاف اية محاولة للتغيير الجذري، على اعتباره تغييراً يعتمد صندوق الاقتراع ولأول مرة، ما يرى فيه النظام السياسي العربي الفاسد خطراً حقيقياً عليه لا ينبغي افساح المجال امامهُ ليرى النور، ولذلك قرّروا ان يولد ميتاً، فاذا بهم جميعاً يتعاونون على المنكر فكانت قوافل الدوابّ تتجمّع في سوريا من كلّ حدبٍ وصوب، بتحريض فتاوى التكفير واموال البترودولار والاعلام الطائفي ليتلقّوا تدريباً ما على عجالة ومن ثم تتسلّل الى العراق لتفجّر نفسها وسط الحشود البريئة!.

وبحمد الله، فلقد انتشرت هذه الجراثيم والدوابّ، بعد ان طعمت من دماء ولحوم العراقيين، لتعيد انتشارها في كل بلدٍ ارسلها إلينا!.

اما في الداخل، فقد واجهت العملية السياسية الجديدة ثلاث شرائح كادت ان تُفشل التجربة، وهي؛

الشّريحة الاولى؛ سياسيون وزعماء سُنّة لم يصدّقوا او يستوعبوا فكرة انهم فقدوا السلطة في العراق الجديد.

الشّريحة الثانية؛ سياسيون وزعماء شيعة يجهلون فَنِّ السلطة وإدارة الدولة بسبب إقصائهم عنها قروناً طويلة.

الشّريحة الثالثة؛ سياسيون وزعماء كرد طامِعون ومستعجِلون، يحاولون ابتزاز العملية السياسية بأي شكلٍ من الأشكال.

ولقد تجمّعت اخطاء هذه الشرائح الثلاث لتضيّع الكثير من الوقت والجهد، ما سبّب كلّ هذه النتائج الكارثيّة التي يمر بها العراق اليوم بعد مرور (١٢) عاماً على إسقاط الصنم.

ان التجربة بحاجةٍ الى اعادة نظر شجاعة من قبل كلّ العراقيين، خاصة السياسيين، فليس المشكلة في ان تخطأ وانما المشكلة كلّ المشكلة في ان تصرّ على الخطأ من دون ان تتوقف لتفكر به وتتعلم منه.

لازال أمامنا هامشٌ من الوقت لإعادة تقييم التجربة بالكامل، ولعلّ في هذا فرقٌ كبيرٌ جداً بين العهدين، عهد الطاغية الذليل الذي ألغى اي هامش للإصلاح ولذلك كانت النتيجة تدمير كل شيء، اما اليوم فهوامش الإصلاح والتغيير وإعادة النظر قائمة في كلّ آن بشرط الإرادة.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق