q

لعل الاقتراب من هذا العنوان يخيف كثيرين.. لكن الحقيقة فيهما يجب أن تقال.. فما يجري في المنطقة وفي العالم الإسلامي تحديداً يستمر الإيحاء به على أنه صراع بين المذهبين، وهما اللذان يشكلان الواقع الإسلامي، بل إن البعض لا يهدأ له بال إلا إذا أضاء على القول بالصراع ومحاولة تأكيده، إضافة إلى شعوره بالسرور إذا ما قدم مداخلته في هذا الشأن.

يحاولون الباس المنطقة منطق صراع مغاير لواقعها الحقيقي من أجل التأثير عليها في صميمها، باعتبار المفهوم المذهبي أداة تفجير خطيرة هي على حد تعبير كيسنجر مهندس الأزمات معركة المائة عام. فإذا ما انفجر الوضع على هذا الأساس فلن يبقى من الأمة ما يذكر بها لاحقاً. فلا سنة ولا شيعة، التراص الإسلامي أقوى من الشبهات التي يبثها الغرب حتى وإن كان عربياً من أجل أغراضه الخاصة، دون تجاهل الدفع الإسرائيلي في هذا الاتجاه من أجل السيادة على المنطقة عندما يأكلها التفتت والإسلامي في طليعته.

المرحلة إذن صراع سياسي، لن تصل أبدا مرحلة العذاب المذهبي.. لكن من المؤسف القول، إن التنظيمات الإرهابية ذات الصفة الإسلاموية تعترف بسنيتها فتقتل من المذهب ذاته دون أن تصل إلى الشيعة، وهي تقتل من المسيحيين ومن الايزيديين، ومن كل من تراه عينها.. لم تطرح حتى الآن لا بالعلن ولا بالسر ربما، إنها ستقاتل الشيعة وحدهم لأسباب مذهبية، هي تقاتلهم من باب استكمال الهيمنة على المنطقة، كل من يقف في وجهها ستقيم عليه الحد وستعمل على قطع رأسه كائناً من كان، هواية قطع الرؤوس حس جمالي عند الإرهابيين المتعطشين لمشاهد تألفها نفوسهم الخالية من الجماليات.

ولإثبات الصراع على أسسه الحقيقية التي تنطلق من مفهوم مشروع، نقرأ في خارطة المنطقة، فما يجري في سوريا لا تتشكل في داخله على الإطلاق مفاهيم مذهبية، يتركز الصراع بين عصابات يعتدون على دولة قائمة، وهذه العصابات وعاء للصوص وهاربين من الجندية ومتآمرين سابقين هربوا من السجون أو كانوا فارين من وجه العدالة وبعض الفارين من خدمة العلم إضافة إلى مجاميع من دول مختلفة غير مرغوب بها في بلادها لأسباب متعددة منها جرمية.. صراع حولته دول قادرة مالياً إلى ما تسعى إليه من تغيير الدولة والنظام، فأنشأت لها أذرعاً منظمة على الطريقة الفاشية، أي مرتبطة برأس مدبر يعرف مسار الأمور ويدير المعارك بمعرفة وحرفة.

وفي سوريا أيضاً من يقاتل لتقسيمها ولتدمير ما تبقى من قوة لها بصورة لا تقبل تفسيراً سوى التآمر عليها في وقت المحنة.. وفي سوريا ما يسوِّغ أموراً وضدها مما يدمي الشعب ويكرِّه الناس بالحياة جراء ممارسات وأوضاع لا يطيقها الإنسان.. وكل ذلك يصب في إضعاف الدولة، وتمزيق المجتمع، وإضرام نار الفتنة بصورها وأشكالها المذهبية والعرقية والطائفية و..؟!

في العراق يحاولون الإيحاء بقوة الدفع الخارجي أن ما يجري صراع مذهبي من أجل إعطائه تسمية سموم، لكن الحقيقة تقول أن حقيقة هذا الصراع قائمة على قواعد سياسية ومنضبطة على صراع مشروعين أيضاً متكرسين من الخارج ومنقادين بقوى داخلية.

ولا يكاد يختلف الوضع في اليمن كثيراً عنه في العراق وسوريا من حيث الاصطفافات المذهبية على الخصوص ومخاطرها، فهناك في اليمن يأخذ خروج الحوثيين على الدولة وإحكام قبضتهم عليها، صبغة مذهبية، شيعية سنية، على الرغم من وجود شركاء آخرين للحوثيين في خروجهم ذاك. وفي اليمن أيضاً كما نعرف أماكن وقواعد للقاعدة ولداعش، وفيه مواجهات بين القاعدة والجيش اليمني منذ سنوات، وكل ذلك أصبح اليوم يؤطر لحرب تصب في الفتنة المذهبية، السنية الشيعية...

وفي لبنان، تشتعل محاور الصراع ثم تنطفئ، ولا يبدو أنها قابلة لأخذ الصورة التي يتوخى البعض قيامها.. إن عناصر المذهبية متوفرة في هذا البلد الصغير، لكنها غير قابلة للاشتعال مهما حاول الفاعلون إضرام نارها. ثمة مشروع واضح يقوده المشروع الأكبر المؤسس في المنطقة (السوري الإيراني العراقي مغطى بالروسي)..

وفي مصر ليس هنالك من ذكر للمذهبية، صراعها منذ أن بدأ هو تغيير النظام، وحين رحل حسني مبارك تحولت إلى قواعد جديدة ما لبثت أن ثبتت على حكم الإخوان المسلمين، ثم جاء وقت اقتلاعه فظل الصفة الحاكمة للصراع بين مشروعين داخلين محكومين بتداخلات خارجية كالعادة.

وفي تونس، تتكرس مفاهيم الصراع بين مشروعين لا وجود للمفهوم المذهبي بينهما..

وفي ليبيا يستمر الانقسام، وتستمر الحرب المجنونة، وإحراق الذات بالذات، وتتواصل الاتهامات وتتفاعل، وتتضاعف صور الانفلات وأشكاله وألوانه، فيصبح هناك من يُحسَبون على الإرهاب، ومن يبايعون داعش، ومن يخوضون حرباً ضد الإرهاب، وأخرى تعلن عن رغبة في تقسيم ليبيا إلى دويلات، وهناك أيضاً من يخوضون جهاداً لإعلانها دولة إسلامية.. وفيها من يمارس أفعالاً تؤدي إلى إثارة فتنة طائفية بوحشية دموية كريهة لا أظنها تتم من غير تحريض أو تطرف أعمى..

ويضاف إلى كل هذه الأفعال المأساوية، مما سبقت الإشارة إليه هنا، وإلى الظروف التي تخلقها والتفاعلات التي تتم بسببها في الدول والمجتمعات العربية والإسلامية، ما كان من أسباب ودوافع لها ومحرضات عليها، ومن دعم وتمويل وتحريض وتجييش.. مما أسس ويؤسس لانقسامات اجتماعية عميقة وخطيرة، وإلى اصطفاف وتحشيد مذهبيين، وإلى تشكّل مفارخ وحواضن للفتنة سياسية وثقافية وإعلامية واجتماعية ودينية.... وكل ذلك يخلق مناخ الحرب/ الكارثة ويفتح باب الاحتمالات على مصراعيه أمام انتشارها الكبير، وبصورة لا يمكن التحكم بها.

ومن الأمور اللافتة في هذه الأوضاع والظروف والكاشفة لإمكانية مسارعة دول عربية، تعمل تحت إمرة غربية، إلى دخولها بحميَّ التبعية واستعمال لأسلحتها بثأرية قبلية ذات أبعاد سياسية استرضائية للغرب أولاً ولمن عداه ممن يهمها أمرهم ثانياً.. على حساب كل صلات قد تربطها بغيرها من الدول والمجتمعات العربية، وعلى حساب ما قد يستنفر الأنفس أو يتخمّر فيها من عداوات وشرور تُزرع وتُروى وتُرعى فتُثَمَّر خراباً وموتاً.. وذلك نتيجة للاستغلال الشعبي الذي تمارسه أجهزة وجهات مختلفة تحت ذرائع وتفسيرات شتى.. ومن ثم يؤدي ذلك إلى صراعات وعنف وإرهاب وانعدام ثقة وتقطيع أواصر وعلاقات دينية وتاريخية وقومية، مما لا ينجو معه الأبرياء خصوصاً من دفع الثمن الفادح في الحروب والصراعات السياسية والمذهبية، الباردة منها والساخنة والدامية.

ويا ما أحلى هذا وذاك من الأقوال الممعنة في الترجمة إلى أفعال على قلب الصهاينة والأميركيين والأوروبيين.. وتستعر الحرب وتستمر حتى تحقق لأعداء الأمتين العربية والإسلامية أهدافهم، من دون أن يتحملوا أية أعباء أو يدفعوا أية تكاليف.. بل على العكس فهي حرب تدرّ عليهم الأرباح وتروج سوق السلاح، وتفتح لهم البلاد وتملكهم رقاب العباد، وتقدم لهم الثروة والطاقة والنفوذ، وتقضي لهم على من حاولوا هم القضاء عليهم بالعدوان المباشر وبأشكال من التآمر فلم ينجحوا تماماً في الوصول إلى ما يريدون؟!

وفي هذا السياق، فقد اعترف نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في خطاب له أمام طلاب في جامعة هارفارد يوم 2 تشرين أول/أكتوبر بان حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، قدموا مليارات الدولارات وعشرات الآلاف من أطنان السلاح للمقاتلين السنة! الذين يحاولون الإطاحة بحكومة الرئيس السوري بشار الأسد. وقال بايدن إن مشكلتنا الكبرى كانت حلفاءنا في المنطقة.. كان همهم الوحيد إسقاط بشار الأسد، لذلك شنوا حربا بالوكالة بين السنة والشيعة، وقدموا مئات الملايين من الدولارات، وآلاف الأطنان من الأسلحة إلى كل الذين يقبلون بمقاتلة الأسد.

لقد وضّح نائب الرئيس في اعترافه مسألتين رئيسيتين، الأولى هي: أن حلفاء بلاده وركائزها في سياساتها وخططها في المنطقة، شاركت في حرب دموية لإشاعة عدم الاستقرار وإثارة النزاعات والصراعات في المنطقة. وأن المسألة الثانية: وهي الهدف من كل ما جرى هو تكريس الحروب بين الطوائف والمذاهب الدينية، وبخاصة بين طائفتي السنة والشيعة بين المسلمين، وهو الهدف المركزي الذي خطط له، ووضع في مهمات الغزو والاحتلال والتوسع الامبريالي والهيمنة الاستعمارية، والتواطؤ معها والتخاذل في النهاية إزاء المصالح الوطنية والقومية وتدمير المنطقة وثرواتها وطاقاتها ومستقبل أجيالها.

وصراحة أجد أن اعتراف نائب الرئيس الأميركي جوبايدن، يتقاطع مع ما قاله ريتشارد هاس في لندن مؤخراً. لمن لا يعرف فريتشارد هاس هو رئيس مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، هذا المجلس تأسس في بدايات القرن العشرين، ومهمته الأولى هي التنظير للسياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وتسهيل عملية صناعة القرار عند ساكن البيت الأبيض على نحو خاص.

في هذا السياق يفهم المرء أهمية كل كلمة ينطق بها هاس ويمنطق بها الأحداث، وقد تحدث صراحة عن الرغبات الدفينة لدى القوى الدولية الحاكمة اليوم حول العالم، وفي سويداء القلب منها ولاشك واشنطن، لإعادة تقسيم الشرق الأوسط، وقالها الرجل صراحة، إنها ربما تكون بالفعل سايكس بيكو الجديدة أو الثانية بعد مائة عام من الأولى.

والمتابع لما يجري في المنطقة العربية يلاحظ، أنّ ثمة نيراناً طائفية ولكنها ليست حتمية، إنما بفعل فاعل، أنى اختفى هذا الفاعل خمدت ألسنة النيران.. هذه جرائم إحراق متعمدة يضرمها قادة متنوعو الوجهات الجغرافية، وأن جمعهم ضيق وقصر النظر سياسياً واقتصادياً وأمنياً. يحق لنا أن نتساءل لماذا العزف على أوتار النيران الطائفية بالتحديد في هذه المنطقة دون غيرها من أوتار الصراعات كالأعراق مثلا؟

الجواب به لمحة فلسفية تعود بنا إلى التفريق بين المطلق والنسبي فالأديان والمذاهب والطوائف هي مقدسات من سبيل المطلق الذي لا يعرف التعايش أو التعددية مع الآخر عندما تصل به حالة التطرف إلى حدها الأقصى ـ خذ جماعة داعش مثالا على ذلك ـ أما النسبي فهو القضايا السياسية الخلافية التي يمكن للمرء التوصل فيها إلى موائمات وتوافقات بينية وسطية.

على هذا الأساس فإن الأيادي التي تشعل النيران في الشرق الأوسط والعالم العربي، تدرك جيداً الخلفيات الدينية، والمرجعيات الثقافية والفكرية لشعوبه، وصانع القرار في الغرب عادة ما يلجأ إلى بعض من أساطير الفكر والعارفين ببواطن الأمور في المنطقة، وقد وجد في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال من هذه النوعية نموذجان، الأول مثله برنارد لويس بطريرك الاستشراق، والأب الفعلي لنظريات صدام الحضارات عند هنتنجتون، وهو السبب الأول والمنظر الأول لتفكيك العالم العربي، والمنادي الأول أيضاً بإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بما يتفق والمصالح الكونية للدول الرأسمالية العظمى، وفي سياق ذلك كان لابد من اللعب على أوتار الطائفية الدينية، وهو الخبير بتاريخ الإسلام والمسلمين في العالم العربي منذ زمان الوحي ونزول الرسالة حتى زمن الاحتلال الإنجليزي للبلاد.

أما الثاني فقد كان البروفيسور فؤاد عجمي الذي رحل عن عالمنا منذ بضعة أسابيع والذي لعب بدوره عاملاً فاعلاً ومؤثراً في دفع إدارة جورج بوش الابن في طريق غزو العراق، ودفع إدارة أوباما دفعاً من وراء وأمام الستار لتفكيك سوريا، وإشعال الحرائق الطائفية فيها، لاسيما بين العلويين والسنة، حتى آل الأمر إلى ما هو عليه.

والمؤكد أن راسمي تلك الخرائط المشتعلة يدركون أن تعددية المطلق، أي الأديان والمذاهب والطوائف، تعددية زائفة لأن المطلق بحكم تعريفه واحد لا يتعدد، وإذا تعدد فصراع المطلقات حتمي، وتساير هذا القول نتائج الأبحاث التي أجريت على الصراع في مجتمعات متباينة، وهي أن الصراعات الاقتصادية تدور على الخيرات القابلة للقسمة، وهي لهذا صراعات قابلة للتفاوض، ومن ثم من الميسور حلها، وعلى الضد من ذلك الخيرات التي لا تقبل القسمة فإنها لا تقبل التفاوض، وصراع المطلقات من هذا القبيل.

غير أن فشل مشروع تقسيم المقسّم وتجزيء المجزأ، فتح شهية الذين وضعوا مخططاته إلى تأجيج حروب دينية جديدة تحت مسميات طائفية ومذهبية وقومية فيما شهدناه ونشهده اليوم في غير عاصمة عربية وإسلامية من احتقانات الفتن ومحاولات تقسيم الشرق الأوسط باسم الدين لإحكام السيطرة على دوله الممزقة وأنظمته الضعيفة: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ـ (المائدة: 82).

وها هنا يجب أن نأخذ حذرنا من هذه الفتن الدينية العمياء ونتبرأ إلى الله سبحانه وتعالى من كل فتنة تقود العرب والمسلمين إلى قتال بعضهم بعضاً تحت لافتات التخوين وشعارات التكفير، ولا خيار لنا إلا أن نحترم الخصوصيات والمقدسات الدينية ليحتكم الجميع إلى قيم الأخلاق والعدالة والعيش المشترك، وإذا كانت ظاهرة الإرهاب الديني والسياسي تهدد العالم بأسره فإن الجهود يجب أن تتضافر لمعالجة التطرف الديني والعنف الديني من أعماق جذوره في الفكر والسلوك.

وليس خفياً على الباحثين والعلماء ما ينطوي عليه هذا الإرهاب من خطر على مستقبل الأديان كلها فلم يكن العنف وسيلة في أديان السماء التوحيدية ولم يكن الأنبياء بطبيعة شرائعهم إلا رسل محبة ورحمة وتسامح، وتلك هي الحقيقة التي يجب أن نواجه بها سؤال الحروب الأيديولوجية والعقائدية لنفصل بالهداية القرآنية بين الحروب الظالمة والحروب العادلة وتأكيد الخطاب القرآني بأن غاية الدين هو السلام وفض الخصومات والعداوات لأن المتضرر من الحروب كلها هو الدين بجوهره الإنساني والسماوي.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق