q

بقلم: آية الله الشهيد السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)
وقد كتبت هذه المقالة عام 1395هـ / 1975م في نشرة الهدى التي كانت تصدر بمسجد بنيد القار في الكويت.

 

الظلام يواصل استيلاءه على أجواء المدينة، والمسلمون يستسلمون لنوم عميق.. ويستيقظ الرسول (ص) في هذا الوقت الذي أعلنت الساعة فيه انتصاف الليل وقد لاح على تفكيره شيء ما – بالهام من الوحي- فبعث إلى أشراف المدينة يدعوهم إلى إجتماع عاجل.

كان التعليل الوحيد الذي خطر في بالهم لهذه الدعوة المفاجئة في هذا الوقت المتأخر من الليل هو أن المسلمين قد داهمهم الخطر من قِبل الأعداء وأن مكروهاً قد حل على الرسول(ص) ومن أجل تصورهم هذا حمل كل واحد منهم سيفه في طريقه إلى منزل الرسول(ص)، بينما كانت أنفاسه تتلاحق وقلبه يدق بعنف كأنه ساعة كبيرة عندما يقف عقربها على الرقم (12).

وعند وصولهم إلى منزل الرسول(ص)، وبعد ما استقروا جالسين بادرهم النبي قائلاً: (فاطمة بضعة مني من أذاها فقد أذاني ومن أذاني فقد أذى الله).

وبذهول بالغ، غادر الصحابة منزل الرسول(ص)، كان كل واحد منهم يتساءل مع نفسه: لماذا دعانا الرسول في هذا الوقت بالذات ليقول لنا هذا الكلام؟ ولماذا لم يؤجله إلى غد ليعلنه على الأمة جمعاء؟ هل أصاب فاطمة مكروهاً منا؟ أم أن هناك أمراً آخر نحن نجهله.

ولكن هل اقتصر الرسول(ص) في توضيح مكانة ابنته فاطمة على هذه المرة؟

كلا! ففي كل مرة كان النبي يشيد بعظمة فاطمة ويصرح بأن (فاطمة سيدة نساء العالمين)، فعندما سئل: أهي سيد نساء عالمها؟ فقال: تلك مريم كانت سيدة نساء عالمها وفاطمة سيدة نساء العالمين الأولين والآخرين.

ويحقق النبي(ص) خطوة أخرى في هذا المجال فيربط بين رضا الله سبحانه ورضا فاطمة ويجعل رضاها مقياساً لرضا الله، مما يكشف أن عواطف فاطمة – من الحب والبغض- لم تكن نابعة من ذاتها وأنها من موقفها الرسالي وموقف الله تجاه القضايا.. يحقق النبي(ص) كل ذلك عندما يقول: (إن الله يرضى لرضى فاطمة) وحينما تغضب فإنما يتفصد غضبها عن ثورة إيمانية ساخطة على كل ما يُغضب السماء لأن الله "يغضب لغضبها (فاطمة)" كما يقول الرسول الأعظم(ص).

وهكذا استمر الرسول(ص) في بيان منزلة ابنته فاطمة(ع) فيقول: (فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبي)، (فاطمة بضعة مني من سرها فقد سرني ومن ساءها فقد ساءني)، (فاطمة أعز الناس علي)..

هذه مجموعة من الأوسمة التي علقها الرسول(ص) على صدر فاطمة(ع)، ونستطيع أن نعرف جانباً من قيمة هذه الأوسمة إذا عرفنا أن الرسول(ص) (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) فليس للعواطف وهو يلقي هذه الأحاديث سبيل إلى قلبه، ودور في كلماته، ولا للمجاملة والمحاباة أي منطق على شفتيه.

وهذا ما يؤكده الرسول الأعظم(ص) عندما يقول موجهاً حديثه إلى فاطمة(ع) (أعملي لنفسك فإني لا أغني عنك من الله شيئاً) فلم تكتسب فاطمة(ع) العظمة – حتى وصلت إلى رتبة سيد نساء العالمين- لأن أباها كان أعظم الأنبياء بل لموقفها الرسالي تجاه القضايا الذي هو المقوم الوحيد لشخصية الإنسان والذي على ضوئه تتحدد منزلة الفرد، ولم تحصل على تلك الشخصية الفذة لحساب الرسول(ص) وإنما نالتها بجهادها وتفاعلها مع الأحداث الإسلامية المتجددة وكفاحها ضد التيارات المنحرفة التي أرادت أن تُخضع الإٍسلام للأهواء والمصالح الفردية.

وليس غريباً بعد ذلك أن يؤكد الرسول(ص) على المكانة التي تحتلها فاطمة(ع) قائلاً: (فاطمة بضعة مني) فهي روح الرسالة التي يمثلها النبي(ص)، وهي قطعة من الإسلام المجسد في محمد(ص).

ولا يمكن معرفة الإسلام كاملاً إلا بعد معرفتها، فهي فصل مشرق من فصول الكفاح الإسلامي والدعوة المحمدية، فما عمله الرسول(ص) كانت فاطمة(ع) امتدادا له وقد أوصلت نور الإسلام عبر مواقفها الجهادية إلى كل الأجيال.. فالنبي(ص) عندما يقول (فاطمة بضعة مني) لا يقصد منه المعنى الضيق للعلاقة النسبية ورابطة القرابة التي هي بين الرسول وفاطمة، وغنما يقصد المعنى الواسع الذي هو عبارة عن الروابط الرسالية التي تجمع بين الرسول(ص) وفاطمة(ع) حتى أصبح الإسلام لا يعرف إلا بفاطمة(ع) لأنها بمواقفها وآلامها الرسالية تشكل فصلاً كاملاً من فصول الرسالة الإسلامية.

مرة أخرى يقول الرسول الأعظم(ص) (لولا علي لم يكن لفاطمة كفؤ – مثيل العظمة-) فعلي كفؤ لفاطمة، أي ما دام أن الرسول(ص) متأكداً على أن علياً مع الحق وأن الحق مع علي فهو – الإمام علي- ميزان الحق ومحور الحقيقة، وما دام أن الرسول(ص) قال: علي مع القرآن والقرآن مع علي فكذلك فاطمة – لأنها كفؤ لعلي- تمثل الحق بل أصحبت ميزان الحق، فكل موقف تتخذه فاطمة وكل عمل تنجزه إنما هو نابع من الحق، والقرآن نسخة ثانية عن الإمام علي(ع).

لقد كانت فاطمة قرآناً متحركاً بتجسيدها لتعاليم القرآن، ومن هنا يصح لنا أن نقول: أن التعّرف على ما أراده منا القرآن يتضح بمراجعة حياة فاطمة كما أن التعّرف على أخلاقيات فاطمة يتحقق بالتأمل في القرآن الكريم.

وإليكم لقطات من حياتها الفياضة بالإيمان والكفاح والنضال..

 

(1)

كان ذلك اليوم باسماً، يوم العشرين من شهر جمادى الثانية..

ماذا حدث؟

لقد وفدت إلى العالم الطفلة الجديدة للرسول الأعظم(ص) – التي سماها فيما بعد فاطمة الزهراء-.. وبمجرد أن وصل النبأ إلى سمع الرسول(ص) ابتهج قلبه وتراقصت البسمة على شفتيه وشاركته خديجة(ع) – والدة فاطمة- الفرح.

وفي وسط رسالي وفي أحضان النبي(ص) الدافئة ترعرعت السيدة فاطمة(ع)، وقد اجتمعت هذه المؤهلات لتنشاها نشأة صالحة وهي:

1- الوراثة.. فمعلوم مدى عظم الرسول(ص) وتحليه بكل الفضائل والمناقب ومعروف أيضاً مدى فضل السيدة خديجة وكمالها الإنساني، فورثت فاطمة صفات أبويها الطيبة والخيرة.

2- التربية الصالحة.. ولقد بذل النبي(ص) جهداً بالغاً شاركته خديجة(ع) جهده من أجل تربية فاطمة وإعدادها فتاة مثالية، ومن أجل زرع مشاتل الخير والنور في قلبها ووجدانها.

3- البيئة التي كانت تعيشها فاطمة(ع) فكانت متصلة بأنوار الوحي تملأ عينيها ونغمات السماء تملأ سمعيها وترانيم القرآن يأسر قلبها ومشاعرها الرقيقة.. وبتوفر هذه العناصر الثلاثة نشأت فاطمة(ع) نشأة صالحة وأصبحت فتاة مثالية اجتمعت في شخصيتها كل منابع الكمال والعظمة والفضيلة.

 

(2)

ما أن تخطت فاطمة عتبة العاشرة من عمرها حتى زوجها النبي(ص) من الإمام أمير المؤمنين(ع).. أما المهر الذي قدّمه علي(ع) إلى زوجته فقد كان عبارة عن 500 درهم فضة.. وكان من تجهيز علي(ع) داره انتشار رمل لين، نصب خشبة للثبات، بسط جلد كبش، مخده، ليف، وجرة ماء خزفية.

لقد كان جهازاً متواضعاً ومهراً بسيطاً ولكن كان في الوقت ذاته، حلواً جداً وعظيماً جداً، وحتماً فإن هذا النوع من الزواج خير من كثير من الزيجات التي تئن تكاليفها من وطأة الغلاء.. وتثقل كاهل الزوج بأعباء المصاريف الباهظة.

لقد كان البيت الجديد الذي انتقلت إليه فاطمة(ع) سعيداً جداً، لن أركانه بنيت على الإيمان والتحابب والمودة وكانت تتناغم في باحته ألوان من الهدوء والمحبة والتعاطف الزوجي السعيد.

وظلت الزهراء(ع) ملتزمة بوظائفها في العش الزوجي الجميل، أحسن التزام كانت تطحن وتخبز وتغسل وتكنس، بالإضافة إلى أنها كانت تساعد الإمام أمير المؤمنين(ع) – زوجها- وتحمل معه الماء والطعام إلى بيوت الأنصار – أنصار الرسول المتضررين بالحروب- وجعلت من بيتها مركزاً للإشعاع الديني.. فكانت تربي النساء تربية إسلامية.. مستهدفة اكتساح الشر، والرذيلة من المجتمع الذي شيده أبوها رسول الله(ص).

كما كانت على علاقة وثيقة برّبها، وكانت تقوم في محرابها كل ليلة جمعة إلى أن يطارد الصباح الظلام.. تعبد الله سبحانه وذلك لكي تعلّم فتياتنا أن للروح غذاء كما أن للجسم – هو الآخر- غداءا وأن أي نقص في هذا الغذاء... وأن الروح تتغذى بالصلاة والعبادة وإن أي نقص في هذا الغذاء الروحي بمعنى نقص في كيان الإنسان.

 

(3)

عندما رأت فاطمة(ع) الانحراف العريض الذي أصاب الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول الأعظم(ص) لتّربع بعض الذين لم يكونوا يمتلكون مؤهلات القيادة على منصة الحكم وعندما شاهدت الحق يتزحزح عن محله لكي يحتل مكانه الباطل – بكل عنف وديكتاتورية- .. فإنها كافحت وناضلت ضد الباطل والأهواء المنحرفة، وطالبت بتحكيم دستور الإسلام وتطبيق نصوص القرآن لاختيار المواقف السياسية ولتقرير مصير الأمة الإسلامية.

من هنا كان على كل فرد أن يقاوم كل سحابة باطل تخيم على المجتمع وتحاول حجر نور الشمس عن أعين الناس مهما كانت الساحبة تلك تحتمي بالسيف.. والعنف.

 

(4)

ماذا يعني الاحتفال بميلاد فاطمة(ع)؟ إننا نكتفي بحب فاطمة(ع) فقط ولا يفعل، الحب وحده شيئاً.. ولكن ذكرى فاطمة(ع) يجب أن تكون محطة روحية يستلهم منها إنساننا المعاصر، فمن فاطمة(ع) يجب أن نستمد القدوة والأسوة الحسنة ومنها نستلهم العزم على مواصلة السير.

اضف تعليق