q

مر الحديث في المسيرة الثورية لسماحة المرجع الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره-، فقد تجسدت الثورة لديه للتغيير والبناء الحضاري، بالمؤسسات وبالفكر والثقافة وبالحركة الاسلامية والعمل المنظم، فكان حقاً ثورة عارمة حملت لأبناء عصره وللأجيال إجابات لعديد الأسئلة الحائرة حول مختلف شؤون الحياة والدين والانسان.

هذه الثورات التي جاءت بالحقيقة ضمن ثورة وانتفاضة واحدة في رافد حضاري واحد، لإعادة جسور العلاقة بين المسلمين وبين حضارتهم وتاريخهم، حققت نجاحها وأثبتت وجودها من خلال ما أجاد به يراعه من افكار وإثارات أضاءت الطريق لتلك الثورات، وبما انها تميزت بالحالة الشمولية لفكر سماحته ومشروعه النهضوي، فإنها هي الاخرى تحولت الى ثورة عارمة أيضاً، أبهرت الكثير من الكتاب والباحثين ما تزال.

فكما ان القادة يدعون لمشاركة الجميع في الثورة والانتفاضة من خلال التظاهر والاعتصام والاحتجاج، او التضامن بالمال والفكر والرأي وغير ذلك، فان الامام الشيرازي، خلق بيراعه وفكره ثورة بالقلم صبّ فيها كل همومه ورؤاه وطروحاته للعلاج والخلاص، بمعنى أنه لم يكن ليمسك القلم بهدف تأليف كتاب يخرج من المطبعة ويأخذ طريقه الى رفوف المكتبات، او يحوم بين عدد من النخبة المثقفة، كما لو انه جريدة حزب، او منشور سري. إنما كانت كتبه تحمل أعظم الافكار وأكثرها جرأة وعمقاً، ثم تقدم باسلوب بسيط قابل للفهم، وبطرح فني سهل التداول، وهذا بحد ذاته شكّل تحدياً في حينه في الساحة الاسلامية، حيث لم تكن المكتبات ولا الاوساط الاسلامية، معتادة على رؤية اسم وسمة "آية الله العظمى والمرجع الديني...." على غلاف كراس صغير، مثل نقد المادية الديالكتيكية. أو "القوميات في خمسين سنة"، او كتاب صغير الحجم مثل "انفقوا لكي تتقدموا". إنما المفترض ان يكون على أغلفة المجلدات الضخمة وحسب! وهذا مصداق "السهل الممتنع" الذي برع فيه سماحة الامام الراحل في معظم مؤلفاته التي ثار وانتصر بها في نهاية المطاف.

ثورة القلم، الى أين؟

عندما نفخر دائماً باننا ننتمي الى شخصية قاد هذه الثورة باكثر من ألف كتاب، في شتى الحقول والميادين، علينا ان نتذكر في الوقت نفسه، ان المسيرة مستمرة باستمرار الحاجة اليها، وشدة التحدي الفكري والثقافي القائم، وهو ما تنبّه اليه سماحته منذ خمسينات القرن الماضي. بمعنى أن ما نجده امامنا من عناوين في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والاخلاق والعلوم الدينية والتاريخ والادب وغيرها، انما هي بالحقيقة تمثل الشرارة لهذه الثورة، وإلا اذا كان الاعتماد على هذه الكتب وحسب، فانها بالقطع واليقين كانت تتحول الى تراث قديم يسلك طريقه الى رفوف المكتبات القديمة التي يعلوها الغبار. وهذا ما حدى به – قدس سره- لأن يحثّ ويدعو ويبحث عن الكتّاب والكتاب والمكتبات.

احد ابرز الكتاب والمنظرين في الحركة الاسلامية، روى لي انه كان صغيراً يلعب مع الصبيان في أحد أزقة كربلاء المقدسة، فصادفه الامام الراحل، فسلّم عليه، وقال له مداعباً: "من الافضل لك ان تكتب كتاباً..."! وبعد عقود من الزمن، وفي احدى اللقاءات مع اخوة رساليين، قاطع احدهم، وكان يشكو تقييد حرية التعبير، وهو يسوق حجة لعزوفه عن الكتابة، وقال له بالحرف الواحد: "انت اكتب وسينشر لك الآخرون...".

من هنا؛ نجده – قدس سره- يستخفّ كثيراً بالاعداد الضئيلة للكتب المطبوعة في عموم البلاد الاسلامية، ويقارنها بما موجود في الغرب، لان الملاحظ ان عدد النسخ لدينا بالآلاف، بينما هي في الغرب بالملايين وبمختلف لغات العالم.

وفي كتابه "ثلاثة مليارات كتاب" يقول سماحته بكل وضوح وإصرار: ان نشر "ثلاثة مليارات من الكتب، حيلة العاجز وأقل الإيمان لمن يريد إنقاذ المسلمين من هذا السقوط الذي لا مثيل له في تاريخ الإسلام الطويل، وإلا فالوسائل الحديثة من الآلات السمعية والبصرية والصحف والمجلات والانترنيت والأقمار الصناعية وما إليها، كلها وسائل العصر للثقافة والإعلام ومن الضروري الاستفادة منها... اننا بحاجة إلى ثلاثمائة دار طبع واسعة في مختلف البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، لتطبع وتنشر، كل دار عشرة ملايين كتاب، بمختلف اللغات العالمية والمحلية، وفي خلال ثلاث سنوات، حتى تنشر: ثلاثة مليارات من الكتب التي تبين للمسلمين ما هو الإسلام التقدمي الذي يواكب كل عصر وزمان". وبما ان المسلمون اكثر من مليار نسمة، فان حصة كل مسلم ستكون ثلاثة كتب فقط.

ورب سائل عن سبب وفائدة هذا الكم الهائل من الكتب...؟ واين القراء؟

انه سؤال محوري ومهم، بيد أن الاجابة عليه ليست صعبة، كما يبينها سماحته في نفس الكتاب، حيث يضع منهجية متكاملة للتأليف ترسم "خارطة طريق" لأبناء الامة لاكتساب الثقافة والمعرفة والفكر الاصيل. وذلك من خلال "المحاور الثلاث": نشر الوعي، ومواجهة التحديات الفكرية، وعرض الاسلام بالشكل الصحيح.

من هنا؛ نجد الامام الشيرازي، وهو ذاك المرجع الكبير والعالم المتبحر في العلوم الدينية، ويؤلف موسوعة فقهية باكثر من (150) مجلداً، الى جانب تأليفات في الاصول والتفسير وغيرها، نراه يؤلف كتاب "القصص الحق"، وهي مجموعة كراسات صغيرة تقدم بشكل شيق وجميل القصص القرآنية الخاصة حول الانبياء والمرسلين، ويضع على الغلاف اسمه وصته بالكامل: "المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي". كما يكتب عن الفضائل والاخلاق الاسلامية. هذه العناوين وغيرها، هي التي تخلق حالة الاندفاع والتحفّز نحو القراءة والمطالعة، فقد أجمع الباحثون والمفكرون على حقيقة عجز الشريحة الاكبر في المجتمع الاسلامي من تقبل واستيعاب الافكار ذات الوزن الثقيل، انما تنجذب الى البساطة والاثارة وما يحاكي وضعها الاقتصادي والاجتماعي والنفسي الذي انهكته الحروب والانقلابات والازمات.

هذه النقطة الدقيقة تنبه اليها سماحته، كما هي سائر نبوءاته الفكرية، وهو يحثنا على الكتابة والتأليف للمشاركة في حركة التغيير الحضاري الشامل، حيث يشير الى امرأة غربية، كتبت (114) كتاباً، طبع كل واحد منه، (103) لغة في العالم، وطبع بالملايين، وهي الكاتبة الامريكية "اجاثا كريستي" صاحبة "القصص البوليسية" المعروفة. فاذا كانت لهذه الكاتبة القدرة على الوصول الى ملايين القراء في العالم، فما الذي يمنع الكتاب المسلون والمثقفون من الكتابة والتأليف بما يفوق هذا العدد، نظراً الى عمق الفكر الاسلامية وشموليته.

من يعلّق الجرس؟!

هذا هو السؤال الحاسم... نعم؛ لابد من التوعية والتثقيف لانتشال ابناء الامة، سواء في العراق وفي سائر البلاد الاسلامية من ظلام الجهل والتخلف والتبعية، حيث نلاحظ آثار كل ذلك على التحولات الجارية في الساحة السياسية. لكن كيف السبيل الى ذلك؟

عندما يهتف سماحة الامام الشيرازي عالياً، ويدعو الكتاب الى خوض هذه الثورة العارمة، فانه يحملهم المسؤولية الحضارية والاخلاقية، نظراً الى الخسائر الفادحة التي ما تزال تلحق بالامة منذ حوالي قرن من الزمن، بسبب التخلف في المجالات كافة، بحيث نلاحظ تكرار الاخطاء في البلد الواحد، وانتقاله مثل المرض المعدي الى البلد الآخر، متمثلاً بالديكتاتوريات المقنعة بـ"الوطنية" تارةً وبـ "الديمقراطية" تارة اخرى، اضافة الى اخطاء اخرى كارثية، مثل عدم قراءة التاريخ بشكل صحيح، والابتعاد عن الصورة الحقيقية للدين، والنصوص الدينية.

وفي كتابه "الى الكتاب الاسلاميين" يحدد سماحته رسالته الدقيقة بان "يقوم الكاتب الاسلامي بدور كبير في تنمية ثقافة المجتمع ورفع مستوى وعيه الديني والسياسي، فقد كتبوا في العبادات كثيراً، وهو شيء حميد، لكن القليل من الكتاب من نذر نفسه للموضوعات الحيّة التي هي مثار اهتمام الناس...". ثم يضع سماحته برنامج عمل للكتاب؛ فمن الناحية المنهجية، يوصي بالتركيز على "حرية الاحزاب" و"شورى المرجعية" و"رفض الاستبداد" و"الأمة الواحدة" و"الأخوة الإسلامية" و"اللاعنف". أما عن الآلية فهناك أدوات للتغيير بيد الكاتب تمكنه من تحقيق ما يصبو اليه وهي " فضح أساليب التعذيب والارهاب" و"الحرية المسؤولة" و"الوعي" و"جمع الناس".

هنا تحديداً تتجلى السمة الثورية في قلم سماحة الامام الشيرازي، فهو في الوقت كان عالم دين ومرجعاً للتقليد، كان منظراً في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والاخلاق وكل ما من شأنه ان يخلق الوعي والثقافة في المجتمع. ولطالما أكد على هذه النقطة في احاديثه ومؤلفاته، بان الانسان المسلم، لا يحتاج فقط الى الاحكام الدينية والتاريخ وذكر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، وهي ركن اساس في المنظومة الثقافية والمعرفية، إنما يحتاج ايضا الى المنهج الصحيح الموافق للفطرة والعقل، يضمن من خلاله سلامته وتطوره وعيشه الكريم في الحياة.

اضف تعليق