q
من يقف وراء هذه التجاوزات؟ تساؤل يعرف الجميع الإجابة عنه، فالكاتب والمؤلف والمبدع في أي مجال كان يمكنه معرفة الخطوات التي تحميه من السارقين، ولكن هذه المهمة ليست من اختصاصه، فالقانون والقضاء والجهات التشريعية هي التي يقع عليها مهمة محاصرة هذه الحالات الشائنة التي كثرت على نحو لافت في السنوات الأخيرة...

يتذكر العراقيون المخضرمون وخصوصا من يعمل في أحد مجالات الإبداع، كيف كانت تتم خطوات نشر كتاباتهم ومخترَعاتهم، وكم تستغرق من الوقت لكي تخرج للنور على صفحات الصحف والدوريات الورقية وتحصل على الموافقات اللازمة، على العكس مما يحدث اليوم في عالم الإنترنيت الذي اختصر الأمكنة والمسافات والأزمنة أيضا، فبالإضافة إلى الاستغناء شبه التام عن القلم والورق والاستعاضة عن ذلك بحروف (الكيبورد) والتنضيد الفوري فيما يتعلق بالأصناف الكتابية، فإن إرسال المادة الكتابية أو سواها جاهزة للنشر إلى أبعد مطبوع في المعمورة لا يستغرق سوى ثوانٍ لا أكثر.

هذه القفزة الهائلة في عالم الكتابة والنشر ومجالات العمل الإبداعية الأخرى، لها محاسنها التي قد تُصعَب على الحصر، ولكنها بالمقابل قد تُلحق بالكتّاب وعموم المستخدمين من المبدعين خسائر قد يكون بعضها مؤلماً، وهو يتعلق بحقوق (الملكية الفكرية) التي تعني بحسب المختصين حقوق امتلاك شخصية أو جهة ما لأعمال الفكر الإبداعية، أي الاختراعات والمصنفات الأدبية والفنية والرموز والأسماء والصور والنماذج والرسوم الصناعية، التي تقوم بتأليفها أو إنتاجها أو تنتقل إلى ملكيتها لاحقاً، وتنقسم الملكية الفكرية إلى فئتين هما الملكية الصناعية التي تشمل الاختراعات (البراءات) والعلامات التجارية والرسوم والنماذج الصناعية والعلامات المميزة للمنشأ من جهة، وحق المؤلف الذي يضم المصنفات الأدبية والفنية كالروايات والقصائد والمسرحيات والأفلام والألحان الموسيقية والرسوم واللوحات والصور الشمسية والتماثيل والتصميمات الهندسية من جهة أخرى.

ومع أن التجاوز على هذا النوع من الحقوق ليس جديدا ولا هو وليد التطورات الهائلة في عالم النشر والكتابة وعموم الجوانب التصميمية والعملية الأخرى، خصوصا بعد اكتشاف الشبكة الأخطبوطية، إلا أن التجاوز المتكرّر بات يوازي هذا التحديث المائز من حيث سرعة التنضيد والطباعة والإرسال إلى جهات النشر فيما يتعلق بعالم الكتابة الإبداعية أو سواها، ونعني بذلك أن السرقات صارت أكبر من حيث الكمّ والنوع، كما أنها باتت أيسر انتشارا وشيوعاً من ذي قبل وأسرع من حيث التنفيذ.

يحفل تاريخنا الكتابي الفكري والأدبي بالكثير من السرقات والتجاوزات على الملكية الفكرية، ويشي بتجاوزات ضجّت بها صفحات الكتب والمعارك الفكرية والأدبية، ولكن اكتشاف الإنترنيت والامتيازات الهائلة التي قدَّمها هذا الاكتشاف لصنّاع الكلمة والفكر، لم يستطع أن يلغي تلك السرقات والتجاوزات أو يحد منها، والغريب أن هذه الترابط والتواصل والانفتاح صار أحد أهم الأسباب التي ضاعفت من تلك السرقات، ولكن من حسنات الشبكة الأخطبوطية أيضا، أنها ساعدت على سرعة اكتشاف التجاوز على الملكية الفكرية وفضح كل من يجرؤ على اقترافها والقيام بها.

من يقف وراء هذه التجاوزات؟ تساؤل يعرف الجميع الإجابة عنه، فالكاتب والمؤلف والمبدع في أي مجال كان يمكنه معرفة الخطوات التي تحميه من السارقين، ولكن هذه المهمة ليست من اختصاصه، فالقانون والقضاء والجهات التشريعية هي التي يقع عليها مهمة محاصرة هذه الحالات الشائنة التي كثرت على نحو لافت في السنوات الأخيرة، فعلى سبيل المثال تم اكتشاف سرقة مادة أدبية لأحد الأدباء العراقيين من قبل امرأة مصرية، وانتشر هذا الأمر بين الأوساط الكتابية والأدبية، ولكن بعد هذه الموجة من تداول خبر السرقة التي رافقتها احتجاجات ورفض، عاد الوضع إلى ما هو عليه، ولم يتم اتخاذ أي إجراء قانوني قضائي أو حتى أدبي بحق الطرف الذي قام بالتجاوز على الملكية الفكرية ذات الطبع الأدبي.

لماذا توقّف الأمر عند حدود التداول ونشر خبر السرقة، وهو عادة ما يحدث مع جميع حالات السرقة التي حدثت في الماضي، فلم نسمع بأن القضاء في العراق خصوصا سبق أن قام بمعاقبة سارق فكري أو أدبي أو سواه، في حين أن العالم كله يقوم من حيث التطور على (المنتَج الفكري الجديد)، والتنافس هنا مضمون وحق يمكن للكل اللجوء إليه، ولكن السرقة أو النسخ التفصيلي التام غير مقبول، خصوصا أن الفضاء الرقمي اليوم أتاح فرصا هائلة لهذا النوع من السرقة، فقد قيل أن أحدهم استولى بطريقة النسخ الإلكتروني (كوبي بست)، على رواية مهمة هي حق فكري أدبي لغيره، لكنه نسخها وطبعا ورقيا وذيّلها باسمه، وصارت روايته هو، ولكن ما هي الإجراءات التي تم اتخاذها بحقه؟، لا يوجد!!.

حتى الاتحادات والمنظمات الثقافية لا تحرّك ساكنا، ولو من باب التحذير أو التأديب للحد من حالات التجاوز على الملكية الفكرية، مثلا لماذا لا يُمنَع السارق من حق النشر في الصحف والمجلات والواقع الإلكترونية كعقاب على ما اقترفه من تجاوز على حقوق غيره من المؤلّفين؟، ولماذا لا يتم سحب هوية الانتماء من هؤلاء؟، كذلك لماذا لا نجد تطبيقا قانونيا للتشريعات التي تحمي المبدعين ممن يتطفّل عليهم ويأكل حقوقهم ويُنسب إبداعات غيره إلى نفسه؟، هذه أسئلة ينبغي الإجابة عنها من الجهات التشريعية والمنظمات والمؤسسات الفكرية والثقافية، خصوصا بعد أن أصبحت السرقة متاحة حتى لمن هو خارج نطاق الكتابة والتأليف.

إن انتعاش النشر الإلكتروني عبر المواقع المختلفة للصحف الورقية والإلكترونية، وحتى في وسائل التواصل الاجتماعي، وسهولة السطو على فكر الآخرين، ينبغي أن يجعل التشريع والقضاء والنقابات الفكرية تقف مكتوفة الأيدي، نحن نحتاج الإنترنيت أشد الاحتياج، وكذا بالنسبة للمواقع والصحف والشبكات الإعلامية الإلكترونية، فما السبيل إلى ردع السارقين، وكيف تتم حماية ملكية العقول المتميزة بإبداعها؟، إن خارطة الطريق في هذا الموضوع شديدة الوضوح، تتعاون المنظمات الثقافية الفكرية مع التشريع مع الجهات القضائية لوضع بنود سهلة واضحة قابلة للتطبيق على كل من يستسهل التجاوز إبداعيا وفكريا على غيره، وهي مهمة ذات طابع تشاركي وتعاون جمعي.

أما ترك الأمور تمضي على عواهنها، فهذا سوف يجعل من شبكة الإنترنيت نقمة بدل أن تكون نعمة، وفي دول راسخة في مجال مكافحة السرقات والتعدّي على الملكية الفكرية، استطاعت أن تحمي المؤلّفين والمبدعين بقوة، مستخدمة تشريعات شديدة اللهجة، كالتغريم المالي والحبس وسوى ذلك من الإجراءات القضائية الفعالة التي أعطت رسالة شديدة اللهجة لكل من يفكر بالتجاوز على الملكية الفكرية لغيره، وقد بلغت بعض الغرامات ملايين الدولارات لمجرد تشابه في (اسم الماركة) أي كلمة واحدة كما حدث مع شركة عطور استخدمت ماركة مشابهة لها، فحوكمت قضائيا بتعويض الآخر بملايين الدولارات، أما نحن في العراق خصوصا نريد من القضاء والنقابات الفكرية والثقافية والإعلامية أن تتدخل بصرامة للقضاء على هذه الظاهرة، لأننا بتنا من المحال أن نستغني عن العالم الرقمي.

اضف تعليق