q

تعتبر المنظمات غير الحكومية (NGOs)، من أهم مكونات المجتمع المدني (C.S)، وأحيانا يترادف هذان المفهومان في الكثير من الأدبيات المجتمعية، التي باتت تحض بفضاء أكاديمي، يشغل الكثير من كبريات الجامعات في العالم، التي ينصرف إهتمامها الواسع، في تقديم الدراسات النظرية والتطبيقية، لعرض مفاهيم المجتمع المدني، وتعريفاته ونطاقه وآلياته، والتي يبرز الخلاف في تفسيراتها ومدركاتها.

وبرغم التفسير الإجتهادي، أو إختلاف التأويل اللفظي، لتعريف مفاهيم مكونات المجتمع المدني، لكنه يجمع عليها ضمن أدبياتها، بأنها المكونات المجتمعية، التي تقع مابين الأسرة والدولة، أو قد يعبّر عنها، بمجموعة التنظيمات التطوعية الحرة، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، أو هي مجمل التنظيمات الإجتماعية التطوعية، غير الإرثية وغير الحكومية.

وتصرّح الكثير من الدراسات الأكاديمية المجتمعية، الى أن مصطلح المجتمع المدني، يشير إلى المجموعة واسعة النطاق، من المنظمات غير الحكومية، وغير الربحية، التي لها وجودٌ في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية أو خدمية.

وكثيرا ماتورد الدراسات الأكاديمية، تصنيفات غير دقيقة، لمكونات المجتمع المدني، ربما بسبب الترجمات غير الدقيقة، التي لا تعبر عن المفاهيم ودلالاتها، فهي قد تذكر النقابات المهنية، وتصنفها بعيدا عن النقابات العمالية، والحال لا فرق بينهما، ثم قد تذكر الجماعات المجتمعية المحلية، ومن ثم جماعات السكان الأصليين، وهذه من تلك عادة، كونها تنصرف لذات الأهداف والمهام، ومن ثم تبرز الإشكالية واضحة، في مفهوم المنظمات غير الحكومية NGO،S، وجميعها ينطبق عليه ذات الوصف ضمن المكونات الأخرى في المجتمع المدني، فالأولى أن يطلق هذا المسمى على جميعها.

وكذا فهنالك مسميات قديمة لمنظمات المجتمع المدني، لازالت يجري تداولها تمييزا عن سائر مكونات المجتمع المدني، فموضوع المجتمع المدني وفعالياته، ليس إختراعا من فراغ، وليس وليد رؤية معاصرة، منقطعة عن جذورها المجتمعية، خاصة أن صدياته تقرأ في الكثير من المتبنيات الدينية الإصلاحية، أو الروابط التطوعية للمساعدة المجتمعية، والحال أنها مجرد مسمّيات قديمة، كان يجري تداولها قبل التوسع الأكاديمي في مفاهيم المجتمع المدني، ومن بينها ربما مسمّى الجمعيات الخيرية، أو جمعيات المبرة، أو الأشخاص ذوي البر والإحسان، والحال أن جميع تفريعات المجتمع المدني، ينطبق عليها صفة الخيرية أو الخدمية وعمل الإحسان.

وقد واجهت هذه الإشكالات أيضا، المفكرون والباحثون في أدبيات المجتمع المدني، ضمن الرؤى الفكرية الإسلامية، والذي قد يكون مجالا بحثيا غير مطروق سابقا، لقامات هذا الفكر، خاصة بعد أن بات البعد الفقهي والبحث الأصولي، منصرف لإيجاد رؤية مجتمعية مستقلة، ضمن الفكر المجتمعي الإسلامي، إذ عرف عن هذا الفكر، إدراكه الواعي للمفاهيم الواردة له، لكنه يستوعبها عادة ضمن رؤاه المستقلة، وبما يستجيب له العقل الإستدلالي الإسلامي حصرا، والفضاءات الفقهية الإسلامية، التي تلفظ ما لا يستقم وتصوراتها وإجتهاداتها.

ومن بين أبرز تلك الخصوصيات، ما يتعلق في نطاق "المنظمة" المجتمعية، أو ما يعبر عنها بوحدة بناء المجتمع المدني، التي يحرص الفكر الإسلامي، أن تكون بدءا من الأسرة، وليس من من خارجها، بمعنى أن تدخل الأسرة ضمن تصنيفاتها وتعريفاتها، وفي ذلك إنعكاس على المهام والواجبات وكذا النطاق أساسا، والحال أن الفكر المجتمعي الإسلامي، يسند للأسرة، مهام مجتمعية رئيسة، لم يلحظها أكاديميو المجتمع المدني المعاصر ومنظروه.

ويدخل في الخصوصية المجتمعية أيضا، موضوع التطوعية وإشتراطات غير الربحية، في العمل المجتمعي التطوعي، لجهة أن الفقه الإسلامي يوجب أن "لا تبخسوا الناس أشياءهم"، وربما ينطبق ذات التمايز، على متبنيات الفكر الديني عموما، وليس الإسلامي حصرا.

وعليه فالتسميات والدلالات والمهام والواجبات، لتفريعات المجتمع المدني ومكوناته، يستحق إفراد مادة بحثية لها، وبالذات البحث في أسباب اللبس فيها.

فلأجل التخطيط للآليات الأفضل والأمثل، لأداء هذا التنظيمات المجتمعية، وتمكينها من ممارسة أدوارها وتحقيق أهدافها، في المجتمع ضمناً، وبينه وبين الدولة، يكون من الضروري استعراض الخصائص والمبادئ العامة، لأهم العناصر المعرّفة لها، أو التي تعد ضمن إشتراطاته التكوينية والوظيفية، وقد يجري لاحقا، مقاربة خريطة مكوناته، ضمن الضرورات العملية، أو التداول الأكاديمي لها:

أولا. عنصر الاستقلال المالي

تتشكل المصادر الطبيعية للتمويل في المجتمع المدني، من خلال الدعم المحلي أو الخارجي والتبرعات، بما في ذلك التمويل الذاتي من المنتسبين، أو الداعمين للمنظمة أو الهيئة، دون إشتراطات مسبقة، في منحها وتقديمها، وتوجد منافذ محلية ودولية متخصصة، لدعم وتمويل المنظمات غير الحكومية، حيث تقوم بتعريفها للجهات المتبرعة والمانحة للهبات المالية بوسائل مختلفة، منها الإعلام وشبكات المعلومات المحلية والدولية.

وبذلك يتمثل عنصر الإستقلال المالي، للمنظمة المجتمعية غير الحكومية، الذي يعد من إشتراطات تأسيسها، ومتطلبات عملها، والذي ينعكس إيجابا، في تحقيق إستقلالها التنظيمي، وحرية قرارتها، ومهنية أدائها الوظيفي، وعدم تبيعتها، لجهات تفرض رؤاها وغاياتها، من خلال التأمين المالي لإحتياجاتها، وبما يتضمن ذلك، الدولة ذاتها.

ثانيا. عنصر العمل التطوعي

تعتمد المنظمات المجتمعية، على الخدمات شبه المجانية والمجانية، التي يقدمها منتسبوها والمتعاونون معها، من خلال العمل التطوعي، مع نسبة محددة فقط من العاملين الدائميين فيها، لقاء أجر معقول، لتلبية حاجاتهم المعيشية، إن كانوا متفرغين للعمل فيها، و يعد هذا العنصر، من إشتراطات وآليات العمل والأداء، في المنظمة المجتمعية غير الحكومية، فضلا أنه يوفر مختلف الكفاءات التخصصية والعامة، وذوي الخبرات المتراكمة، التي تلبي المتطلبات التشغيلية، للمنظمات غير الحكومية، ذات الإهتمامات والحقول التخصصية المختلفة، في إتجاه ترصين ملفاتها وبرامجها.

ثالثا. عنصر الاستقلالية

تتميز المنظمات المجتمعية غير الحكومية، بعنصر الإستقلالية عن الدولة، وكذا عن سائر الحركات السياسية، أو الأنشطة الإقتصادية الخاصة، إن في العمل أو في الأداء، فهي تدير أنشطتها ذاتيا، دون تدخل أو توجيه، من قبل الدولة، أو الفعاليات الأخرى، كما ويشترط فيها، أنها لا ترتبط بأحزاب سياسية، أو تنظيمات فكرية، أو جماعات عقدية، ذات أهداف سياسية محددة، أو أنشطة إقتصادية خاصة.

كما أن المنظمات المجتمعية غير الحكومية، لا تسعى إلى الوصول إلى السلطة، مع إمكانية إقامة علاقات عامة، مع مختلف الجهات الفاعلة في الدولة والمجتمع، وكذلك إمكانية أدائها لوظائف سياسية، مثل تدعيم المشاركة السياسية للمرأة، وضمان حقوق الأقليات، ودعم أدوار الشبيبة، والتجمعات المهنية، والنشاط بشكل جماعات ضغط في الحياة السياسية العامة.

رابعا. عنصر عدم استهداف الربح في العمل

يشترط في أنشطة المنظمات المجتمعية المدنية، توفر عنصر اللاربحية، من خلال عدم استهداف الربح في العمل، وينطبق ذلك على المنظمات التي وان حققت ربحا في أنشطتها، دون تعمّد ذلك، أو إستهدافه، فإنها توجهه إلى الغرض من تكوينها، وتلبية إحتياجاتها وتوسيع أنشطتها، مثل مساعدة ذوي الإحتياجات الخاصة، أو رعاية المسنين، أو تنظيم الأسرة ودعم الطفولة، وفقا لوظيفتها وتخصص أنشطتها المجتمعية، ويجري تثبيت ذلك، في كشوفات فعالياتها، وتقريراتها المالية الدورية بدقة.

وقد يواجه هذا العنصر الإشتراطي، كما وغيره من عوامل إشتراطات التكوين، والمهام والعناوين فيه، ضمن منظومة المجتمع المدني، إعتراضات ضمنية، قد تكون دواعيها، التقاطعات العقائدية، التي قد تفرضها التوجهات "الليبرالية"، ومتبنيات السوق الحرة، أو طروحات الفكر الديني، والمتبنيات العقدية فيه، غير أن هذه الإجتهادات والرؤى، لا تعد من بين مقدمات هذه الدراسة، أو نطاقها وأهدافها، ولا تشكّل تغييرا، في مخرجاتها البحثية.

اضف تعليق