q
هوية الصراعات الطائفية تقريبا هي التي حكمت المشهد السياسي في البلد وفي ظلها اختفت أو اختبأت هويات الصراعات الحقيقية التي كمنت فيها دوافع وعوامل ظلت تتحين الفرصة للظهور وفرض مطالبها وأهدافها. تلك الصراعات المختبئة خلف جدران الوهم الطائفي والعرقي، هي صراعات السلطة والثروة، وقد وجدت...

منذ سقوط النظام في العام 2003 شهد العراق صراعات متعددة الهويات، لكن هوية الصراعات الطائفية تقريبا هي التي حكمت المشهد السياسي في البلد وفي ظلها اختفت أو اختبأت هويات الصراعات الحقيقية التي كمنت فيها دوافع وعوامل ظلت تتحين الفرصة للظهور وفرض مطالبها وأهدافها.

وحقيقة تلك الصراعات المختبئة خلف جدران الوهم الطائفي والعرقي، هي صراعات السلطة والثروة، وقد وجدت الصراعات على السلطة هويتها الحقيقية في الحراك الجماهيري الذي تمثل الصيغة الطائفية – السياسية في مناطق غرب العراق ومحافظاته ومدنه التي عرفت في الخطاب الإعلامي أو وسمت بالمحافظات السنية، ولا يمكن حصر الطائفية السياسية في البراغماتية الحزبية السنية بل هو توجه عام هيمن بقوة على التفكير السياسي والشعبي في هذه المحافظات.

ولم تكن الطائفية – المذهبية – الدينية هي المحرك وراء هذا الحراك الذي كان جماهيريا حقيقيا ولم يكن حزبيا أو فئويا محدودا، بل كان يقف خلف هذا الحراك فقدان السلطة بعد العام 2003 وخسارة المواقع الأولى المتقدمة في البلد، وكان التهميش أو الإحساس به وهو المعني بفقدان السلطة هو العنصر المحرك لمحنة الصراعات التي شهدتها المنطقة الغربية – السنية في العراق.

بينما هيمنت الصراعات على الثروة في المحافظات الجنوبية التي صنفت في الخطاب الإعلامي بانها محافظات شيعية، فالسلطة التي كانت من نصيب هذه المحافظات بعد العام 2003 أوجدت شرخا اجتماعيا كبيرا في تراتبيات المجتمع الجنوبي، وصنعت فجوة اجتماعية ومالية هائلة ومتضخمة نفسيا واجتماعيا بين طبقات وأفراد هذا المجتمع، وقد كانت الغالبية العظمى أو الأكثرية المطلقة تعاني من فقدان الثروة او عدم الحصول عليها بالقدر الكافي الذي يضمن لها العيش الإنساني حتى باقل مستلزماته المعيشية والخدمية، بينما تمتعت اسر وأفراد في هذا المجتمع برفاهية وعيش الثروة التي درت بها السلطة على هذه الاسر وبعض الجماعات المصنفة في لغة التوصيف السياسي والاجتماعي السائدة بانها شيعية، وقد تكافأت فرصها في الحصول على الثروة المستباحة في البلد مع فئات وأحزاب وجماعات صنفت سنية وأخرى كردية.

ان محور الصراعات حول السلطة لا يخرج عن اغراءات الثروة، فالسلطة في منطقتنا وثقافتنا بل وفي تراثنا هي الطريقة التقليدية والمثلى للحصول على الغنى والثروة وهي تشكل ذلك البعد المتماهي في الوعي الاجتماعي لدينا بالغنيمة.

فالسلطة غنيمة اللحظة أو الفرصة التي لا تفوّت اذا كانت بمتناول اليد وفي أفيائها يعيش المرء غنيا وثريا، هذا مفهوم السلطة في ثقافتنا الاجتماعية الموروثة عبر حقب من النظم السياسية في تاريخنا التي كرست مفهوم السلطة بهذا المضمون وأدرجته في مفهوم الفيء، ويغنم بالفيء في ظلها الافراد والأسر كلما كانت أقرب في مواقعها الى مركز الفيء – النظام السياسي، ولاننسى ان الفيء في تراثنا الثقافي هو مفهوم عائد او متفرع على مفهوم الغنيمة.

وتشكلت في البلد على ضوء هذه الوقائع وفي تراكمات الصراعات على السلطة والرغبة في الثروة طبقة سياسية تنقسم طائفيا وتتكافأ الفرص بينها في تحقيق الثروة، وقد تماثلت في أدائها السياسي في الصراعات على السلطة، وتماثلت في علاقتها بمكوناتها أو طوائفها وأعراقها نتيجة تماثل الفكر الطائفي - السياسي لديها، وتماثل الوعي الاجتماعي لديها حول السلطة بما هي آلية للكسب غير المشروع ووسيلة في الغنيمة وتحقيق الثروة.

وبعد ان استقرت الأمور نسبيا في البلد حول السلطة والتقسيم الطائفي والعرقي الذي تأسست عليه وهي في طريقها الى ترسيخ أسسها تلك، فان الصراعات على الثروة ستكون هي محور الصراعات الرئيسي في البلد، وسيكون هذه المرة بين المجتمع بكافة مكوناته المذهبية والعرقية من جهة والطبقة السياسية بكافة فئاتها وأفرادها واحزابها السنية والشيعية والكردية من جهة أخرى، وبالقدر الذي كانت فيه الصراعات على السلطة وبصيغتها الطائفية صراعات زائفة وغير منتجة لنظم سياسية مهما كان نوعها تكون جديرة بالديمومة والبقاء، فان الصراعات على الثروة هي الصراعات الحقيقية والتاريخية التي أثبتت في تجاربها التاريخية لاسيما في العصر الحديث ومنذ الثورة الفرنسية هي الصراعات الكفيلة بتوجيه الشعب بكافة فئاته وشرائحه وطبقاته نحو الدولة بما هي تنظيم اجتماعي وسياسي حديث ينبني على ركني الثروة والسياسة وتطبيقات العدالة في توزيع الثروات.

وقد منحت هوية الصراعات على الثروة في البلد هذه المرة إمكانية الخروج على الصيغ والمفاهيم الطائفية والتقسيمية التي أرادت فرضها على العراق أجندات دولية وإقليمية ومحلية أحيانا.

لقد وعت الجماهير العراقية خطورة التصنيف الطائفي – السياسي للمجتمع، ووعت الخداع الممارس من قبل هذا الخطاب بشتى صيغه الدولية والإقليمية والمحلية، وفهمت حقيقة الصراعات على السلطة والثروة. واذا كان الصراع على السلطة يفقد مشروعيته الأخلاقية واحيانا حتى السياسية، فان الصراع على الثروة هو صراع حقيقي وتاريخي ومشروع وصراع تقود اليه ضرورات الحياة. يقول أبو ذر الغفاري - رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام وصاحب رائدها الأول علي ابن أبي طالب - "عجبا لمن لا يجد قوت يومه في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه".

ويكتسب هذا النوع من الصراعات مشروعيته المنبثقة عن طبيعة الحياة في بعده الأخلاقي، وفي بعده التنظيري يكتسب مشروعيته من ارتهانه بالحق المكتسب قانونيا في ظل مفهوم المواطنة ومبدأ الحقوق والواجبات لاسيما في الدولة الحديثة التي تقدم فكرة الحقوق على فكرة الواجبات، فالحق في مبدأ المواطنة مضمون في توزيع الثروة وفي حالة امتناع الدولة عن التوزيع المتساوي والعادل للثروة فإنها تكون قد ارتكبت خرقا واضحا في نظامها ووسائل تعاملها مع المواطن مما ينتج او يتيح فقدان العدالة في توزيع الثروة الحق في الاحتجاج والتظاهر بل والثورة على النظام السياسي في منطق التاريخ الحديث ومفاهيمه في الدولة الحديثة ومبدأ حقوق الانسان.

فالجماهير لا تكف عن وسائلها في تحصيل حقوقها في الثروات وقد تنتج شرعية مبتكرة خاصة بها تكفل لها تحقيق وإنجاز مطالبها قد تختلف مع تنظيرات الشرعية الأخرى، فعمليات التخريب والاعتداء على مؤسسات الدولة والتصادم مع الأجهزة الأمنية المكلفة بحفظ النظام قد ينظر اليها بشرعية نسبية من جانب المتظاهرين والمحتجين كوسائل لتحقيق المطالب الجماهيرية والحاجات الملحة في العدالة في توزيع الثروات لاسيما مع التأجيل أو الرفض الذي قد تبديه السلطة في الاستجابة الى هذه المطالب، مما ينتج عن هذه الصراعات على الثروة صراعات على السلطة يكون الطرف الفاعل فيها هذه المرة هي الجماهير المحتجة على الظلم الاجتماعي الناتج عن فقدان العدالة في توزيع الثروات، وهنا يكتسب الصراع على السلطة بعدا شرعيا في المعادل الموضوعي في منطق التاريخ الحديث باعتبار ان السلطة هي صمام ومنفذ التوزيع للثروات لاسيما في الدول ذات النظام الريعي أو الدول التي تتبنى مسؤولية كفالة عيش وحياة المواطن وتكون الثروات فيها من الموارد الأولية – الطبيعية مثل بلدنا العراق.

وما نخلص اليه أن الصراعات على السلطة تكتسب مشروعيتها اذا كانت الجماهير خارج أطرها الطائفية وتشكل الطرف البارز في هذه الصراعات التي تشترط أيضا انها تكون على اثر الصراعات على الثروة أو متفرعة عنه.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق