q

معظم الشعوب تنظر الى النزاهة والفساد من الجانب الأخلاقي، وهو امر صحيح ولا غبار عليه، ولكن غاية الالتزام بالنزاهة والابتعاد عن الفساد، لا يحكمها المنطق الاخلاقي او الديني أو الشرعي فحسب، فهذه معايير مسلَّم بها، ولكن هناك جانب آخر مهم ايضا، ينعكس عن إلتزام النزاهة ونبذ الفساد، وهو يتعلق بالربحية المادية والمعنوية، فبإمكاننا القول أن صاحب المشروع الاقتصادي النزيه، هو الأكثر ربحية من غيره، على المدى البعيد، والقريب ايضا في حالات معينة، فضلا عن السمعة الطيبة التي ستحيط به، والتي ستعود عليه بربحية مادية تناظر الربحية المعنوية.

وهذا امر لا يختلف عليه الناس مهما تباينت عقولهم، فصاحب العمل النزيه، بغض النظر اذا كان مشروعه كبيرا أو صغيرا، فإنه يتطور في أرباحه اكثر من الاخر الذي لا يعبأ بالنزاهة، ولا يؤمن بها ولا يعيرها الاهتمام اللازم، بل على العكس من ذلك قد يلجأ الى أساليب الحيلة، وربما الغش احيانا، وهي طرق واساليب مرفوضة قد تقوده الى الربح اسرع من غيره، ولكنها في الحقيقة تعود عليه بخسائر كبيرة، أهمها خسارة النفس وعدم احترامها، وخسارة السمعة الطيبة، فضلا عن حتمية كشف أساليبه الباطلة، والتي ستكون سببا حاضرا، في فشله المادي والمعنوي، حتى لو كان صاحب قرار، أو مالكا ورئيسا لمؤسسة صناعية انتاجية كبيرة، إذ ان فساده وعدم نزاهته ستجعله عرضة الى النبذ وعدم الاحترام، حتى اولئك الذي يعملون تحت أمرته لن يطيعوه بسبب فساده. وقد ورد في نص قرآني مبارك (ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون / الشعراء 152).

وربما يبرر بعضهم حالات عدم النزاهة بحجة تحقيق الارباح المالية، وهي حجج لا تصمد أمام الثوابت كافة، فالدين والاخلاق والاعراف والنواميس وسواها من الضوابط، ترفض الفساد بصوره واشكاله كافة، وتمجّد النزاهة وتعدها من أسمى صور العفة والالتزام، إذ يقول الامام علي عليه السلام في هذا المجال: (الْنَّزاهَةُ آيَةُ الْعِفَّةِ) ويقول عليه السلام أيضا: (الْنَّزاهَةُ عَيْنُ الظَّرْفِ). بمعنى أن النزاهة والبُعد عن الشرّ هو عين الكياسة والعقل. والمراد هو النزاهة عن جميع الأرجاس والأدناس الظاهرية والباطنية والصورّية والمعنوية، وكون ذلك عين الكياسة والعقل، وبهذا تساعد النزاهة الانسان على أن يكون عفيفا في أشد الحالات ضيقا وعسرا.

ورأى كثير من العلماء والفلاسفة والمصلحين، أن الابتعاد عن تنزيه النفس واليد من الفساد بأنواعه، يعود على الانسان بأضرار كبيرة، وعواقب وخيمة، قد تفاجئ القائم بها، كونه لا يحسب حسابه كما يجب، ولا يعير الاهتمام اللازم للقيم الانسانية التي تضبط الانشطة الربحية، وتنظمها وفق معايير توازن بين الجميع، أما اعتماد الفساد طريقا لتحقيق الارباح المادية والمعنوية، فهو امر لا يمكن أن يحقق أرباحا (دائمة)، ربما يحصل الانسان الذي لا يتحلى بالنزاهة على بعض الارباح، ولكنها بالنتيجة ستكون وبالا عليه، كونها تمثلا أضرارا فادحة له ولغيره من الناس، وقد جاء في كلمة للفيلسوف المعروف ارسطو: (شر الناس هو ذلك الذي بفساده يضر نفسه والناس).

وربما يبرر بعضهم هذا السلوك، وفق رؤية زائفة، فيذهب الى أن المصلحة الذاتية تبرر استخدام الانسان للوسائل كافة، من اجل تحقيق الربح، وهؤلاء يقتربون من الرؤية الميكافيلية التي تعمل وفق مبدأ معروف (الغاية تبرر الوسيلة)، ويذهب بعضهم الى ان الفرص لا تتاح للانسان بشكل دائم، وما عليهم سوى استثمار الظروف لصالحهم حتى لو غاب عنصر النزاهة عن خطواتهم في التنفيذ، وهو رأي لا يرقى الى الصحة والدقة، فقد اثبتت الوقائع أن سبل الاحتيال غالبا ما تنتهي بالانسان الى خسارة كل شيء؟!.

وقد جاء في المثل الشعبي المعروف (اللي يعيش بالحيلة سيموت بالفقر)، وهذا دليل واضح على أهمية النزاهة، ومراعاة حقوق الناس، حتى في التعاملات المادية التجارية، لابد للإنسان أن يعتمد النزاهة وعفّة النفس، فضلا عن الجوانب المعنوية، ففي جميع التعاملات التي تنطوي على الارباح والخسائر، ليس امام الانسان سوى تنزيه الذات من الفساد، وردعها في حالة ميلها الى الباطل على حساب الحق، وبالنتيجة ستكون الربحية الدائمة لصالح الانسان الملتزم النزيه، أما الخسائر الدائمة، فهي من حصة الفاسدين، وأن أصابهم الغنى (الوقتي)، لكنهم على المدى البعيد، سوف يعودون الى واقعهم الذي يحيطهم بالخسارة الدائمة.

ولا شك أن هذه النتائج تنطبق على الجميع، أفردا ومؤسسات، وحتى الدول يشملها هذا السلوك، لكن الخديعة لا تخدم احدا، وهنا قد يرد تساؤل حول استخدام (البراغماتية) في السلوك السياسي للأفراد والدول، وهو امر وارد، هنا الامر مختلف بطبيعة الحال، فالانسان عليه أن يراعي مصالحه ويذهب دائما نحو منافعه، وله الحق في ذلك، ولكن هذا لا ينفي اقتران البحث عن المنفعة بالالتزام، بل هذا الامر لا يتناقض مع النزاهة، فمن حق الفرد والمؤسسة والدولة ان تراعي مصالحها وتذهب الى منافعها، وفق ضوابط عدم إلحاق الضرر بالآخرين، وهذا تحديد ما تدعو إليه قيم الاستقامة والنزاهة، فالربح المادي والمعنوي والسياسي والاقتصادي مشروع للجميع، وفق ضوابط النزاهة المتَّفق عليها بين الجميع.

اضف تعليق