q

في خضم المواجهة والتحديات التي تواجهها الامة منذ عقود، نسمع عن امتلاكنا القدرات والطاقات الهائلة، الطبيعية منها والبشرية، وكلها مواهب إلهية عظيمة، ولا يجهل أحد ان منطقة الشرق الاوسط، وتحديداً الشرق الأدنى (ايران والعراق والخليج)، تُعد من أغنى بقاع الارض، ليس فقط بالنفط والثروات المعدنية وحسب، وإنما من حيث القدرات البشرية، حيث العقول واليد العاملة والشريحة الشبابية. مع وجود هذا وذاك، فان هذه المنطقة نفسها تُعد اليوم من أخطر المناطق في العالم وأكثرها بعداً عن السلم والاستقرار والتقدم. فما السبب في ذلك؟

ربما يذهب الى البعض الى الرؤية السياسية ويلقي بالمسؤولية على الحكام كونهم –على الاغلب- منغمسون في الملذات وتحقيق الرغبات الشخصية، من امتلاك القصور والسيارات والطائرات والبنايات وغيرها. وهذا صحيح من وجه، بيد انه ليس كل الحقيقة، لان هناك مؤسسات ومكونات في الامة لها دورها في هذا المضمار، ولنفترض ان الله – تعالى- رزق الامة حاكماً عادلاً وحكيماً، فهل يتمكن لوحده من استثمار الطاقات والقدرات ويقدمها جاهزة لأبناء الامة؟!

من هنا نجد المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين". يعد تفجير الطاقات واستثمارها من سمات المجتمع المتقدم، كما يعد عدم الاستفادة من هذه الطاقات من سمات المجتمع المتخلف. إذن؛ فالجميع مسؤولون عن هذه الركيزة الاستراتيجية في حياة الامة، والسبب في ذلك أن هذه الطاقات والقدرات تتلاشى وتتبعثر بأشكال متعددة نذكر منها:

1- الهدر

هذه الحالة تنشأ على يد الفرد الواحد، كما تنشأ من المجتمع ومن جماعات الافراد، وبما ان الهدر، اساساً يمثل عملاً سلبياً وينافي العقل والحكمة، فلا أحد يعترف بينه وبين نفسه، او بينه وبين الناس انه يتسبب في هدر طاقته هو او الآخرين. والسبب في ذلك، التدخل العنيف والمتطرف للرؤى والاجتهادات، وحالة التحامل خلال عملية التعاطي الفكري والثقافي، مثال ذلك؛ التوقيت في الاستفادة من هذه الطاقة او تلك، او التفاضل بين هذا المشروع او ذاك، فيتم تجميد الطاقات بشكل غير مباشر، فربما تكون هنالك طاقة ذهنية في مجالات العلم والبحث والدراسة والكتابة، او طاقة ابداعية في الخطابة او حتى مجالات فنية عديدة. وعندما لا يتم رعاية هذه الطاقات الشابة، فان حالها يكون حال البرعم الصغير الذي ينحسر عنه الماء فيبدأ بالجفاف والموت البطيء.

2- البعثرة

وهذا نقيض التركيز والتخصص الذي يعد من السمات الحضارية لكل مجتمع ناجح، بينما نلاحظ السمة المناقضة تماماً هي الغالبة في بلادنا، علماً ان الجميع يقرّ بالقاعدة العلمية التي تقول بجدوائية تركيز القوة في بؤرة واحدة مثل أشعة الشمس في عدسة صغيرة، لاستحصال النتيجة المسلّمة، بيد ان المشكلة تبدأ عندما يعتقد البعض ان بإمكانه فعل كل شيء من خلال كل شيء. فبامكانه الاستثمار في التجارة وتوظيف امكانات الدولة والشعب في مشاريع غير مهمة، في وقت يعيش المقاتلون على جبهات القتال الشحة الشديدة في المؤن والذخيرة والوقود.

نعم؛ من الخطأ وضع البيض كله في سلّة واحدة، لكن من الخطأ ايضاً الاستفادة من هذا البيض نفسه، كل واحدة في مكان، فالتفقيس – مثلاً- يتم بالجملة، كما هو معروف.

هذه الحالة، تولّد لنا حالة سلبية اخرى، وهي التعب والملل بسبب استهلاك القوى واستنزافها بشكل مستمر وفي اتجاهات متعددة، والاخطر من ذلك، عدم شعور الانسان بقرب حصوله على النتيجة المرجوة، مما يكرس حالة الخيبة والاحباط وربما الانسحاب من الساحة.

3- التبعيض

فربما تكون هنالك طاقات وقدرات عديدة، لكن الاستفادة منها لا تكون كاملة، إنما بالتقسيط – إن صحّ التعبير- فمن لديه نبوغ علمي وابداع فني، ينبغي ان يسلط عليه الضوء الكاشف، وتتم تنمية مواهبه وصقل شخصيته ليكون على أتمّ الاستعداد لتقديم كل ما لديه لشعبه وامته. وعندما نتحدث عن الأمم الناجحة والمتقدمة، فان من عواملها؛ استيعاب هذه الطاقات، وايضاً وجود الهمّة العالية لدى الانسان نفسه على الإسهام في عملية تنمية مواهبه وصقلها، وهذا بحاجة الى مزيد من الجهد والمثابرة، وإلا ما فائدة ان يُقال لشخص أنه "عالم" او "كاتب" او غير ذلك من الطاقات والمواهب، اذا بقيت مكبوتة في كوامن نفسه، لا يخرج منها إلا القليل، ربما لضرورات معينة او لحاجة في اوقات خاصة، كأن تكون لأغراض سياسية او غير ذلك.

4- التوجيه الخاطئ

ربما يكون هناك التركيز والتنمية والشمولية في الاستفادة من الطاقات، بيد ان المشكلة في نهاية المطاف تظهر في الغاية من وراء كل ذلك. ولنا عبرة في تجارب شعوب استفادة إيما استفادة من قدراتها البشرية والطبيعية، وبشكل منظم ومدروس، ولكن ليس للبناء والرخاء والسلام، وإنما لشن حرب عالمية مدمرة مثل الحرب العالمية الثانية، فقد كان للشعب الياباني وايضاً الشعب الالماني، قدرات ذهنية خارقة وطاقة على الانتاج تساوي أضعاف ما موجود لدى عديد شعوب العالم. مثلاً؛ كانت المانيا "الهتلرية" تمتلك في ذلك الزمان حوالي (800) طائرة مقاتلة. وسفن حربية عملاقة وغواصات وآلاف الدبابات والمدافع، وتمكن الالمان اليابانيون مواصلة الحرب لست سنوات في مواجهة قوى كبرى في العالم، لكن الثمن كان موت حوالي عشرين مليون انسان من عسكري ومدني.

وهذه النقطة، كما النقاط الاخرى، تكون معالجتها بشكل مشترك بين الانسان الفرد، وبين المسؤولين في الدولة، لان القضية تتعلق بمصير مشترك اساساً. فمسألة تحديد الغاية النبيلة والصحيحة لصب الطاقات والقدرات، من مسؤولية المجتمع ومؤسساته الثقافية والعلمية والبحثية، كما هي مسؤولية الدولة، وتحديداً مؤسساتها الرسمية، مثل وزارة التخطيط والتعليم. وربما نجد في تاريخنا المعاصر حالات خاطئة لتوجيه طاقات وقدرات في اتجاه معين بالاتفاق غير المكتوب بين المجتمع والدولة، فالمجتمع يضخ ويقدم العقول والايدي العاملة، والدولة تخطط ثم تقدم المغريات الكبيرة فيكون التنفيذ والكارثة... وربما يكون مثالنا الاقرب، الطاغية صدام الذي حاول تجيير بعض – وليس كل- الطاقات العلمية في العراق لخدمة مغامراته العسكرية وإثبات وجوده أمام دول المنطقة على انه الاقوى.

هذا العراق اليوم أحوج ما يكون اليوم الى برنامج متكامل لاستثمار طاقاته البشرية والطبيعية التي تتعرض الآن للاستنزاف منذ فترة طويلة، والاستفادة مما تبقى لبناء البلد، وهو بذلك جدير لعوامل عديدة متوفرة، مثل حب الارض والافتخار بالهوية، والاهم من كل ذلك؛ حالة الممانعة ضد كل اجنبي ودخيل، سواء كان فكرياً او عسكرياً او سياسياً.

اضف تعليق