q

منذ أساطير هوميروس الاغريقية في الالياذة والاوديسا تأسس البعد الاسطوري في تمجيد الحرب، وكانت اساطير هوميروس تلك قد نقلت أسطرة الحرب الى مسارات التاريخ البشري بعد ان كانت الاساطير الاقدم تاريخا في بلاد الرافدين وبلاد الاغريق تنشغل بحروب الآلهة، وكان يمجد فيها كبار الآلهة الاقوياء وهي تسحق بعضها البعض أو تسحق مدن الاعداء أو تتخلى عن مدنها الموكولة اليها حمايتها. فقد كان في عقيدة القدماء ان لكل مدينة آلهة تقوم بوظيفة حراستها وحمايتها من الأعداء، وهكذا فسر الرومان الوثنيين الدمار الذي لحق بروما بعد ان تخلت عنها آلهتها وفق ما ينقله أوغسطين في كتابه مدينة الله في سياقات الفكرة القديمة في الحماية التي توفرها الآلهة لمدنها.

لقد جاءت الالياذة والأوديسا الاسطورة الاغريقية التي ظلت فاعلة بقوة في اللاوعي الأوربي، جاءت لتنقل وظيفة الحماية من الآلهة الى البشر ليظهر عصر البطولة في تاريخ أوربا بعد عصر الآلهة، ويكون تمجيد البطولة عنصرا مؤسسا في تمجيد الحروب، بل ظلت فكرة البطولة تعني العلاقة بالحرب في الذهن البشري العام والذي تعود بتأسيسها الى تلك الاساطير الممجدة للحروب.

ولم تكن تلك الاساطير ومعانيها المستغرقة في تمجيد الحروب إلا قاسما مشتركا في الذهن البشري العام – القديم، وظلت كل الأمم القديمة تحتفظ بذكريات أبطالها الأسطوريين وأوهامها في صناعة تاريخها على يد أولئك الأبطال الفائقين – أنصاف الآلهة، مثلما ظلت الموسيقى والأناشيد وقرع الطبول وقد تشكلت تاريخيا فنونها في فضاءات الأساطير القديمة تلهب حماس الشعوب في التغني بأمجاد الحروب، وكانت الشعوب القديمة تجد في تلك الأساطير وفي الآداب الملحمية وهي لغة الحروب التعبير عن المعنى في هويتها والاحساس بجوهرها الوجودي، بينما كان السلام مفهوما يأتي في آخر قائمة الأوليات بالنسبة للشعوب القديمة ولا تؤمن به إلا خضوعا ونزولا عند الأمر الواقع، ولذلك كان السلام يقترن بمفهوم الاستسلام وتوكيد اشتقاقه اللغوي من ذات المعنى.

ونتيجة تركيبة مفهوم الحرب في الذهن البشري العام القديم نشأت فكرة معيار الحق هو القوة الذي أعادت صياغته الداروينية الاجتماعية في البقاء للأصلح الذي يختزن مبدأ القوة في حيثياته وتضميناته الذي رسخه نيتشه في الذهنية النازية – الألمانية، فكانت الحرب العالمية الثانية هي قمة وخاتمة التمجيد الأسطوري للحرب، وعلى أثر الدمار الذي أحدثته هذه الحرب في العالم لاسيما عالم أوربا الذي صار يمثل العالم الحديث، برزت حساسية السلام قوية في أوربا ومن حينها لم تندلع حرب في أوربا ولم تشارك دول أوربا في حرب خارجية مشاركة حقيقية أو فاعلة، ولم تستسغ الذهنية الأوربية بعد ذلك فكرة الحرب أو تمجيد الحرب، وتشكلت أفكار السلام أو الدعوات الى السلام نتيجة التجربة المأساوية للحرب العالمية الثانية حتى جعلت التفكير بالحرب، مجرد التفكير، كابوسا تخشى شعوب أوربا التفكير به.

وقد يستثنى الشعور السياسي الأميركي من تلك الحساسية تجاه الحرب أو الرغبة في خوض الحرب، ذلك ان أميركا ظلت بمنأى عن آثار الحروب منذ انتهاء الحرب الأهلية فيها بين الشمال والجنوب في العام 1865م، وقد استمرت لخمسة أعوام، وكذلك ضَمن لها موقعها البعيد عن ميادين الحروب في العالم فرصة النجاة من آثار الحروب المدمرة، ولذلك كان الرد الاميركي قويا وفاعلا على أثر تعرضها الى تلك العمليات الارهابية في ايلول في العام 2001م، ولازال العالم يعاني من آثار الرد الاميركي على عملية الهجوم على أراضيه.

وتمت عملية أسطرة استهداف أميركا من قبل قوى الشر في العالم في محاولة ضمنية في أسطرة الحرب وتمجيدها من جديد، وهكذا ضمنت أمريكا رغبتها المستمرة في المواجهة ورغبتها المكبوتة في الحروب، وكانت دعوات السلام هي الأضعف فيها من بين كل دول العالم لاسيما بعد ان ترسخت في الثقافة الاميركية الاجتماعية فكرة الخير الليبرالي بإزاء مواجهة محور الشر، والشعور الذي انتاب المجتمع الاميركي بانه مستهدف من خلال محور الشر وهو مارسمته السياسة الاميركية في الذهنية الاميركية العامة، وان العبارة التي يختتم بها كل رئيس أميركي خطابه الى الأمة (ليبارك الرب أميركا) هي التي تكرس انحياز اميركا الى الخير الذي يكون بمباركة الرب وفق العقل الاميركي مما يمنحها شعورا بحقها في الحرب وتبريره في الفاع عن النفس.

وعلى ضوء تلك الاسباب لم تتعظ أميركا من الحرب أو انها لم تبلغ تلك الدرجة القصوى من عظة تجارب الحروب، ولذلك ظلت على غلوائها في رغبتها في خوض الحروب.

لكن بالمقابل نجد في تجربة الحرب الاهلية اللبنانية والقريبة من تاريخنا وفي منطقتنا نتائج مقاربة، أو تنتمي الى ذات الرؤى والتصورات حول الحرب في أوربا ومحور تلك النتائج هو الخشية من الحرب، وهي التجارب التاريخية الحديثة التي ينبغي الأخذ بها كمحفزات واستثمارها في ترسيخ مبادئ وأفكار السلام في المنطقة التي اشتعلت فيها الحروب منذ العام 2003 م في أعقاب سقوط نظام البعث في بغداد، وكانت المعاناة تشكل صعوبة بالغة الخطورة في المناطق التي دارت فيها رحى تلك المعارك الدامية، وكانت تشكل البيئة المثالية لنمو أفكار التطرف والارهاب وعمل الجماعات المسلحة التي استباحت النظام وتسببت في زحزحة الواقع السياسي والقانوني للدولة.

وتتكأ أفكار التطرف بقوة على مشاعر وايهامات أسطرة الحرب وتمجيد القتل بشكل يدعو الى القلق على الحياة بمجملها والتماس الدائم مع الموت، وهو ثيمة أساطير الحرب القديمة وهو ما يبرر اعتبار افكار التطرف والارهاب تنتمي الى الذهنية القديمة، وبالقدر الذي كانت فيه تشكل أسطرة الحرب وتمجيد القتل دافعا لقوى التطرف والارهاب في الاستمرار في نهجها الدموي والحربي فإنها أورثت في المناطق التي خاضت فيها حربها وقتالها تجارب بالغة العظة في الحساسية تجاه الحرب وخوفا بالغا من عودة الحرب فيها على أثر الدمار الذي ألحقته شأنها شان كل المناطق والدول التي دارت فيها الحروب في العصر الحديث، وهو ما يجعل من ضرورة استثمارها كمحفزات نحو السلام مسؤولية الجهات والمراكز الفاعلة في صناعة الرأي العام وصناعة القرار السياسي باتجاه بناء ايديولوجيا السلام المجتمعي في البلاد.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2017 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق