q

البناء الذاتي، مرحلة حاسمة ومصيرية في حياة الشعوب والأمم الطامحة للتغيير والتقدم، لان هذا البناء هو الذي سيشكل القاعدة التي تحمل البناء العام في المجالات كافة، من اجتماع واقتصاد وسياسة وكل شيء في حياتها، وعندما نلاحظ التقدم لدى الشعب الياباني او الالماني – مثلاً- علينا ملاحظة الوجه الآخر لهذا التقدم، ومن هم رجاله؟ وما صفاتهم النفسية والفكرية وقدراتهم المادية والمعنوية؟

وخلال متابعتنا لبحوث ومحاضرات الفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- والذي تمر هذه الايام الذكرى السابعة رحيله المؤلم، نجد لديه حرصاً بالغاً على مشروع البناء الذاتي للانسان، وإجراء عملية تقويم وتهذيب للشخصية والصفات والسلوكيات، بما يمكن الانسان (الفرد والمجتمع على حدٍ سواء) من الإسهام بنجاح في مسيرة التقدم. فالبناء الناجح للأسرة والمجتمع والدولة، لن يكون – في نظر الفقيه الراحل- إلا بعد النجاح في بناء الإنسان وفق المواصفات الصحيحة. فصاحب الاخلاق الذميمة – مثلاً- او صاحب الافكار التي تتعارض مع الفطرة السليمة، لن يكون مؤهلاً للمشاركة في بناء مجتمعه وبلده، وإن أصر وحاول فرض نفسه، لا نجد منه سوى الفتن السياسية والانحرافات الفكرية والدمار والموت.

واذا كانت البلاد المتقدمة علمياً، أولت الجانب المادي اهتماماً اكبر في عملية البناء الذاتي للانسان لديها. فان الفقيه الشيرازي – قدس سره- يذكرنا في عديد بحوثه التنموية على الجانب المعنوي ايضاً، تأكيداً منه على مبدأ "تكريم الإنسان"، والمنزلة السامية التي وهبها الله تعالى له في الحياة. وكلما كان هذا الانسان أقرب الى منزلته الكريمة، وطريق التكامل الانساني، كان أقرب الى النجاح وتقديم الافضل، ويصف سماحته هذه المنزلة بالحالة "الآدمية" التي يجب ان تنمو مع النمو الذهني والجسمي وكل قدرات ومواصفات الانسان، وبنفس القدر الذي يبتعد فيه الانسان عن "آدميته" فانه يقترب الى الافعال غير الانسانية التي ربما يمارسها دون شعور منه بمساوئها وخطورتها عليه وعلى المجتمع، مثل الظلم والتجاوز على حقوق الآخرين.

ان الانسان بإمكانه الارتقاء في مدارج التطور، كأن يكون عالماً نحريراً أو خطيباً مفوهاً، او تاجراً ذكياً او حتى زعيماً عسكرياً او سياسياً، وغيرها من الطموحات المشروعة التي طالما بلغها الكثير من الناس، لكن بما أن العبرة في النتائج – كما يقال- فان ما يقدمه هذا الانسان المتألق في جانب او اكثر في حياته، هو الذي يحدد شخصيته وفائدته بين مجتمعه وأمته، فكم من طبيب حاذق ومتخصص في مجالات نادرة، مثل القلب والشرايين او العيون او الامراض السرطانية وغيرها، بيد أن مشكلته فقدانه الجانب الانساني في تعامله مع المرضى، فهو لايتعامل مع انسان، إنما مع المرض وحسب، كذلك العالم في القانون، فهو يتعامل مع نظريات في القانون، وهي من وضع انسان مثله، كما يتعامل مع قضية اكثر مما يتعامل مع صاحب القضية وظروفه وملابسات قضيته. لذا يمكن ان نفسر معظم مظاهر التأزم والتخلف والتمزق في الامة، بوجود هذه الحالة اللاانسانية.

وحتى يكون لدينا نموذج حيّ من واقعنا لنعرف اهمية هذه الحالة في البناء الذاتي، نستفيد من تجربة احد ابرز علماء الدين ومن المؤسسين الافذاذ، وهو الشيخ عبد الكريم الحائري، مؤسس الحوزة العلمية في قم المقدسة، فقد كان ينقل عنه انه خلال وجوده الى جوار الامام الحسين، عليه السلام، كان يدعو الله بحق الامام الحسين، "أن يجعله آدمياً بعد ان ساعده واصبح عالماً".

فما الذي يدفع عالم دين كبير مثل الشيخ الحائري لأن يطلب من الله هكذا طلب؟ وما العلاقة بين الشخصية العلمية والشخصية الانسانية؟

الفقيه الشيرازي الراحل يبين لنا حقيقة حضارية غاية في الاهمية، وهي ان فقدان الشخصية الانسانية، او بالاحرى عدم الاهتمام الانسان بانسانيته وآدميته، يجعله - من حيث لا يشعر- بعيداً وغير ذو فائدة في المجتمع، بل يدفعه للانزلاق في مهاوي الديكتاتورية والظلم والطغيان، ولا فرق، ربما يكون ذلك على مستوى الأسرة الصغيرة، وحتى مع زوجته واطفاله، وربما يكون في محيط عمله وفي الجامعة والمدرسة والمعمل والمعسكر، كما يكون جليّاً وواضحاً عندما يكون خلف طاولة ضخمة أمامه لوحة تبين صفته الرسمية، مثل "المحافظ" أو "الوزير" أو "المدير العام".

لذا يشير – قدس سره- الى سيرة أهل البيت، عليهم السلام، وكيف انهم ركزوا بشكل لافت الى عملية البناء الذاتي – الانساني، فيما كانوا يعيشون القمع والاضطهاد من قبل الدولة الاموية ومن بعدها الدولة العباسية، ففي الوقت كان يفكر البعض بالتغيير الثوري الصاعق الذي يطيح بالحكام والأمراء وحتى الانظمة السياسية، كانوا، عليهم السلام، يفكرون في المديات البعيدة، حيث يفترض ان يكون البديل القادم هو الأفضل والاحسن، وليس الأسوء، كما حصل مع التفاعل الحاصل مع نداءات "يالثارات الحسين" التي رفعها بنو العباس للإطاحة بالامويين، وكان لهم ذلك. فمن الذي يحمل هذا البديل؟ وكيف؟ هل يحمله شخص مثل "المنصور الدوانيقي" أو "ابو العباس السفاح"، ومن خلال الدجل والنفاق والغدر؟ طبعاً؛ رب سائل عن كيفية تحقيق الحالة الانسانية (الآدمية) وما هي شروطها...؟

سماحة الفقيه الشيرازي الراحل – قدس سره- يضيء في بحوث عديدة هذا الجانب، ربما تسنح الفرصة – انشاء الله – لتقديم قبسات من تلك الافكار النيرة في مقالات قادمة.

 

اضف تعليق