q
NOURIEL ROUBINI

 

نيويورك ــ في الآونة الأخيرة، شهدت صناعة الخدمات المالية ثورة. ولكن القوة الدافعة وراء هذه الثورة لم تكن تطبيقات البلوك تشين (سلاسل الكتل) التي حظيت بقدر كبير من الضجة الإعلامية، مثل البيتكوين. إنها ثورة مبنية على الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء.

وبالفعل، تستخدم آلاف الشركات الحقيقية هذه التكنولوجيات لتعطيل كل جانب من جوانب الوساطة المالية. وهناك العشرات من خدمات الدفع عبر الأنترنت ــ باي بال، وعلي بابا، ووي تشات باي، وفينمو، وما إلى ذلك ــ التي يستخدمها مئات الملايين من المستخدمين يوميا. كما تتخذ المؤسسات المالية قرارات إقراض دقيقة في غضون ثوان وليس أسابيع، وذلك بفضل ثروة من البيانات على الإنترنت حول الأفراد والشركات. وبمرور الوقت، ربما تعمل هذه التحسينات المدفوعة بالبيانات في تخصيص الائتمان على إزالة طفرات الرواج والكساد الدورية المدفوعة بالائتمان.

على نحو مماثل، أصبحت ممارسات مثل التوقيع على سندات التأمين، وتقييم وإدارة المطالبات، ورصد عمليات الاحتيال، أسرع وأكثر دقة. وعلى نحو متزايد، يجري استبدال المحافظ المدارة بنشاط بمستشارين في هيئة روبوتات سلبية، والتي يمكنها أن تؤدي بشكل جيد أو أفضل حتى من المستشارين الماليين المتضاربين الذي يتقاضون رسوما مرتفعة.

والآن، فلنقارن ثروة التكنولوجيا المالية الحقيقية الجارية هذه بسجل البلوك تشين، الذي ظل متواجدا لفترة تقرب من عشر سنوات، ولا يشمل سوى تطبيق واحد: الكريبتو كوينز (العملات الرقمية المشفرة). وقد يزعم أنصار البلوك تشين أن أيامه الأولى تشبه الأيام الأولى للإنترنت، قبل أن يكون لها تطبيقات تجارية. ولكن هذه المقارنة زائفة ببساطة. ذلك أن الإنترنت سرعان ما أدت إلى ظهور البريد الإلكتروني، والشبكة العنكبوتية العالمية، والملايين من المشاريع التجارية القابلة للحياة والتي استخدمها مليارات من البشر، في حين تعجز العملات الرقمية المشفرة مثل البيتكوين حتى عن تحقيق الغرض المعلن منها.

فبوصفها عملة، ينبغي للبيتكوين أن تكون وحدة عملية للحساب، ومخزنا ثابتا للقيمة. ولكنها ليست أي شيء من هذا. فلا أحد يسعر أي شيء بالبيتكوين. وقِلة من تجار التجزئة يقبلونها. وهي مخزن رديء للقيمة، لأن سعرها من الممكن أن يتقلب بمقدار 20% إلى 30% في يوم واحد.

الأسوأ من ذلك أن العملات المشفرة تستند في عموم الأمر إلى وعد زائف. فوفقا للمروجين لها، كان الإمداد منها ثابتا عند مستوى 21 مليون وحدة، ومن غير الممكن لهذا السبب خفض قيمتها مثل العملات الإلزامية. ولكن هذا الادعاء محض احتيال، نظرا لتشعبها بالفعل إلى ثلاثة أفرع: البيتكوين كاش، والليتكوين، والبيتكوين جولد. وفضلا عن ذلك، يجري اختراع مئات من العملات المشفرة الأخرى كل يوم، جنبا إلى جنب مع حيل معروفة باسم "اكتتابات العملة الأولية"، والمصممة في الأغلب للالتفاف حول قوانين الأوراق المالية. لذا فإن العملات المشفرة "المستقرة" تعمل على خلق معروض من المال ثم تخفض قيمته بوتيرة أسرع كثيرا من أي بنك مركزي رئيسي.

وكما هي الحال مع الفقاعات المالية، يشتري المستثمرون العملات الرقمية المشفرة ليس لاستخدامها في المعاملات، بل لأنهم يتوقعون أن تزيد قيمتها. والواقع أن المرء إذا أراد أن يستخدم البيتكوين فعليا، فسوف يواجه صعوبة كبيرة في القيام بذلك. ذلك أن إنتاجها كثيف الاستخدام للطاقة (وبالتالي، سام للبيئة)، كما أنها تنطوي على تكاليف معاملات مرتفعة، حتى أن مؤتمرات البيتكوين لا تقبلها كشكل صالح من أشكال الدفع.

حتى الآن، كان الاستخدام الحقيقي الوحيد للبيتكوين يتلخص في تسهيل أنشطة غير قانونية مثل صفقات المخدرات، أو التهرب الضريبي، أو تجنب ضوابط رأس المال، أو غسل الأموال. وليس من المستغرب أن تعمل الدول الأعضاء في مجموعة العشرين معا الآن على تنظيم العملات الرقمية المشفرة وإزالة سِمة عدم الكشف عن هوية مستخدمها التي يفترض أنها توفرها، من خلال اشتراط تسجيل كل المعاملات المولدة للدخل أو المكاسب الرأسمالية.

بعد حملة صارمة من قِبَل الهيئات التنظيمية الآسيوية هذا الشهر، هبطت قيم العملات الرقمية المشفرة بنحو 50% من الذروة التي بلغتها في ديسمبر/كانون الأول. وكانت لتنهار بصورة أكبر كثيرا لولا المخطط الذي جرى تنفيذه بسرعة على نطاق واسع لدعم أسعارها عن طريق التلاعب الصريح. ولكن كما جرى في التعامل مع فقاعة الرهن العقاري الثانوي، لا تزال أغلب الهيئات التنظيمية في الولايات المتحدة في سبات عميق.

منذ اختراع الأموال النقدية قبل آلاف السنين، لم يحدث قط أن نشأ نظام نقدي حيث المئات من العملات المختلفة تعمل جنبا إلى جنب. الفكرة الكاملة من المال هي أنه يسمح لأطراف مختلفة بإجراء معاملات دون الحاجة إلى المقايضة. ولكن لكي يكتسب المال قيمة، ولكي يعمل على توليد اقتصادات الحجم الكبير، فمن غير الممكن أن يعمل مثل هذا العدد الكبير من العملات في نفس الوقت.

السبب الذي يجعلنا في الولايات المتحدة لا نستخدم اليورو أو الين بالإضافة إلى الدولار واضح: فالقيام بهذا عديم الجدوى، ومن شأنه أن يجعل الاقتصاد أقل كفاءة. والواقع أن فكرة عمل المئات من العملات المشفرة معا لا تتناقض مع مفهوم المال فحسب؛ بل إنها بلهاء تماما.

لكن هذه أيضا حال فكرة أن تتمكن ولو حتى عملة مشفرة واحدة من الحلول محل المال الإلزامي. ذلك أن العملات الرقمية المشفرة لا تنطوي على قيمة حقيقية، في حين تنطوي العملات الإلزامية على قيمة حقيقية بكل تأكيد، لأنها يمكن استخدامها لسداد الضرائب. والعملات الإلزامية محمية أيضا من انخفاض القيمة بفِعل التزام البنوك المركزية بتحقيق استقرار الأسعار؛ وإذا فقدت العملة الإلزامية مصداقيتها، كما يحدث في بعض الأنظمة النقدية الضعيفة مع التضخم المرتفع، فيمكن مبادلتها بعملة إلزامية أجنبية أكثر استقرارا أو أصول حقيقية.

وكما تصادف، فإن ميزة البيتكوين المفترضة هي أيضا نقطة الضعف القاتلة التي تعيبها، لأنها حتى لو كانت الإمدادات منها ثابتة حقا عند مستوى 21 مليون وحدة، فإن هذا من شأنه أن يفقدها أهليتها كعملة قابلة للحياة. فما لم يتتبع المدد من أي عملة الناتج المحلي الإجمالي الاسمي المحتمل، فسوف تخضع الأسعار للانكماش.

وعلى هذا، فإذا حل مدد ثابت من البيتكوين تدريجيا محل عملة إلزامية حقا، فإن مؤشر أسعار كل السلع والخدمات سوف يشهد انخفاضا مستمرا. وبالتالي فإن أي عقد دين اسمي يُقَوَّم بالبيتكوين سيرتفع بالقيمة الحقيقية بمرور الوقت، مما يؤدي إلى ذلك النوع من انكماش الدين الذي يعتقد الخبير الاقتصادي إرفينج فيشر أنه كان السبب في التعجيل باندلاع أزمة الكساد العظيم. وفي الوقت نفسه، سوف تتزايد الأجور الاسمية بالبيتكوين إلى الأبد بالقيمة الحقيقية، بصرف النظر عن نمو الإنتاجية، مما يضيف المزيد إلى احتمال حدوث كارثة اقتصادية.

من الواضح أن عملة البيتكوين أو أي عملة رقمية مشفرة أخرى تمثل أم جميع الفقاعات، وهو ما يفسر لماذا سألني كل إنسان التقيت به بين عيد الشكر وعيد الميلاد في عام 2017 ما إذا كان ينبغي له أن يشتريها. وقد استغل المخادعون، والنصابون، والمحتالون (وجميعهم من المطلعين المتضاربين) شعور مستثمري التجزئة بالخوف من تفويت الفرصة، وخدعوهم.

أما عن التكنولوجيا الأساسية التي تقوم عليها البلوك تشين، فلا يزال هناك العديد من العقبات الضخمة التي تقف في طريقها، حتى وإن كانت إمكاناتها أكبر من العملات الرقمية المشفرة. وأبرز هذه العقبات هي أنها تفتقر إلى ذلك النوع من البروتوكولات الأساسية المشتركة والعالمية التي جعلت الإنترنت متاحة للجميع (TCP-IP، HTML، وما إلى ذلك). الأمر الأكثر جوهرية هو أن وعدها بإلغاء مركزية المعاملات في غياب أي سلطة وسيطة يُعَد وهما غير مدروس ومغرقا في المثالية. ولا عجب أن البلوك تشين تأتي في مرتبة قريبة من أوج دورة الضجيج حول التكنولوجيات المبالغ في تقدير التوقعات بشأنها.

ينبغي لنا إذن أن ننسى كل شيء حول البلوك تشين، والبيتكوين، وغير ذلك من العملات الرقمية المشفرة، وأن نبدأ بالاستثمار في شركات التكنولوجيا المالية التي تتبع نماذج أعمال حقيقية، والتي تكدح وتتقدم بصعوبة نحو إحداث ثورة في صناعة الخدمات المالية. لن تصيب الثراء بين عشية وضحاها؛ ولكنك بهذا تدخل في الاستثمار الأكثر ذكاء.

* نوريل روبيني، أستاذ في كلية ستيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق