q

لكل نوع من أنواع التفكير أسس ينبني عليها، ويتطور ويتفرد عن سواه، كي يحايث العصر الذي ينبثق منه، فالتفكير هو المحرِّك غير المرئي للحياة، فلا أحد يمكنه مسك التفكير، ولكن هناك دلائل حصيفة تُظهرهُ، وتدفع بتأثيراته بأشكال مادية مختلفة الأثر والمفعول، فإذا كان التفكير غير ملموس، فإنه يمكن أن يكون محسوسا، تدقق فيه الحواس المناسبة له، ومنها على سبيل المثال، الإحساس بالتقدم ورؤية المشاهد التي تدل على ذلك، كذلك هنالك نتائج النقاش والحوارات المتنوعة، فإنها تستطيع أن تبيّن أنماط التفكير بعد التعرّف على مصدرها، وتكون النقاشات أو ما يسمى أحيانا بالعصف الذهني عاملا مساعدا على تركيز أساسيات التفكير وتنويعه وصقله، كي يأخذ مداه وخصوصيته.

وتساعد أساسيات التفكير على تحديد الهوية الفكرية، وذلك بعد التدقيق النشيط فيما يدفعه التفكير من أدلة مادية، سوف نكتشف ذلك الفكر، فهو من النوع الذي يُعرَف بنتائجهِ، وربما ينطبق عليه أكثر من قول مأثور، كونه يعمل بلا لسان، ويتكلم بلا صوت، فنتائجه هي التي تدل على جودته أو خرابه، الحرب مثلا تفكير سياسي يصدر عن رأس صنّاع القرار، ولكن نتائجه تظهر فيما ينتجه من خراب مدمّر يلحق الويلات والبؤس بالعالم، وقد يحدث العكس فترى فردا أو مجتمعاً ما متقدما بارعا ذكيا، يفكر بطرائق ليست نمطية، وهذا لا يمكن اكتشافه إلا بمعاينة الواقع ومعرفة درجة تطور ذلك المجتمع كي نفهم درجة ارتقاء الفكر الذي يقوده، فالفكر المتنوع وأساسياته هو حاصل إتقان الفرد والمجتمع لذلك الفكر وتفاصيله أو ماهيته.

وأمر طبيعي أن تعجّ الأرض وسكانها في مختلف الأمصار، بتيارات فكرية لا يمكن تُحصَر في دائرة واحدة، فتوجد لدينا أنواع كثيرة ومتباينة من أساسيات التفكير، ولكن هناك نمطين رئيسين لهذه التنويعات الفكرية، ولكن يمكن أن تنحصر في هذين النمطين أنواع وأشكال الفكر وأساسيات المختلفة، ولو أننا بحثنا في الكشف عن هذين النوعين، بعد التمايز والتنقيب سنجد أنهما كما يلي:

- تفكير محبوك ومصاغ بكلمات ثاقبة وأساسيات رصينة.

- الثاني هو الفكر المفتقد للأساسيات السليمة.

والأمر المحسوم هنا أن أساسيات الفكر كلها تندمج أو تتكاثف في الإطارين أعلاه، وهي تتجمع في النوعين المذكورين سلفاً، مع كل أنواع وأنماط التفكير الفرعية التي تنتمي الى أحد النوعين بحسب نتائجها، فإن كانت جيدة ومفيدة فهي بالتأكيد تنتمي الى التفكير الجيد، وهذا النوع من التفكير هو العماد الأول، والمرتكَز الأوحد لتقدم وتطور الأفراد والمجتمعات والأمم التي تتقن التنويع الفكري وتجيد أساسياته، وهذا التحصيل لن يتحقق في ليلة وضحاها بل هو نتاج حقبة زمنية قد تمتد إلى قرون من الزمن.

ولكن ثمة فكر لا يرقى إلى النتائج المرتقبة بسبب افتقاده للأساسيات والتنويع الذي لا يمكن إهماله في أي حال، فالأفكار الفرعية الرديئة يمكن أن تتجمع مع بعضها حتى ينطبق عليها القول المتداوَل المعروف الطيور على أشكالها تقع، لتصبح مصدر الخراب والبؤس والأذى بأنواعه المادية والمعنوية، وهذا النوع من التفكير البائس، هو الذي ينحدر بالإنسان الفرد نحو الحضيض، وهو الذي يدمر الساسة الطغاة وللأسف يلحق الخراب بالبلدان والشعوب معاً، كونه بلا أساسيات سليمة، وفي الأعم الأغلب ينحو إلى التشابه وعدم الأصالة.

يبدر هنا تساؤل طالما شغل الأذهان، بالأخص عقول النخب العلمية المختصة، مفاد السؤال ما هو التفكير الذي نحتاجه؟، سؤال في قمة الوضوح، هل نحن بحاجة الى التفكير السائد، التفكير الذي سبقنا إليه الآخرون وانتقلوا الى سواه؟، بالطبع تأتي الإجابة بـ كلا، نحن لسنا بحاجة الى التفكير السائد أو النمطي الساكن، فمن يريد أن يحقق قفزة عظيمة في عالم الإنتاج المتميز بشقيه المادي والمعنوي، أول خطوة يجب عليه القيام بها، مغادرة التفكير النمطي، ووضع علامة شطب أو حجب على هذا النوع لأنه غير جدير بالعقل الذي يسوح في مجالات فكرية واسعة تبتغي التنويع والتجديد بما يحقق محايثة دقيقة للعصر المُعاش.

تُرى هل يوجد هذا النوع او النمط من التفكير بيننا، أو في شعوب وأمم أخرى؟، بالطبع الإجابة، نعم يوجد وربما يسود نسبة عالية من سكان العالم، أفرادا وشعوبا، فيمكننا القول أن جميع الدول المتأخرة أو المتخلفة في مشارق الأرض ومغاربها، سبب تأخرها هو التفكير النمطي الخالي من الإبداع، فكل فكر نمطي لا يغير الحال ولا يقدم الفرد أو الأمة قيد أنملة، أما كيف يمكننا التخلص من هذا النوع من التفكير الساكن أو التراجعي، فإن الأمرَ ليس هيّناً ولا طوع النوايا أو التمنيات، وأجزم هنا أن القضاء على التفكير السقيم، يستدعي جهودا عظمى لردم الهوّة الفكرية الفاصلة بيننا وبين الأمم المتطورة، وأكرر لا سبيل الى التقدم إلا بردم هذه الفجوة، وهي كبيرة بما يفوق تصوراتنا، ولو أننا قررنا ردمها ومعالجة التفكير السائد، فإن ذلك يحتاج الى جهود فكرية عملية عملاقة، تسبقها خطط تثقيفية تعليمية إستراتيجية، بحيث تغيّر هذه الجهود عقول الناس طرّاً وتجعل منهم أكثر إتقانا ودراية بأساسيات التفكر المتنوع.

وهذا يقود الذهن أو العصف الذهني في مضامير قد تصبح متضاربة، فهي عملية معقدة، وليست في متناول العقل أو اليد، إلا إذا سبقت النتائج إجراءات ومعالجات مخصصة جدّيا لمحو الأفكار السائدة أو النمطية وترسيخ أساسات التنويع الفكري الموائم لروح العصر وما يستجد فيه من مضامير فكرية لا تظهر إلى العلن إلا في حال:

- تشكيل مؤسسات فكرية، مراكز بحوث ودراسات متخصصة، تقدم الوصايا الى صانع القرار.

- التركيز على المؤسسات الجامعية التعليمية والمدارس بجميع مراحلها، ورفدها بمناهج علمية، وكوادر تدريسية قادرة على تنمية عقول الدارسين، لتجعل منها أدوات لوأد التفكير السائد.

- من غير الممكن أن تكون هنالك جدوى للمعالجات ما لم يتم الأخذ بوصايا مراكز البحوث والدراسات من طاقم الحكومة، وزراء وغيرهم.

- إدخال المناهج المتطورة في رياض الأطفال صعودا، لتنظيف العقلية الصغيرة وتزويدها بالحديث والطازج من الأفكار والقيم.

- إقامة حملات تثقيفية للأسرة، تتعهد بها جهود مدنية، أو رسمية متخصصة.

- لا يوجد مانع من تحرّك الجهد الحكومي بما يحفّز الخلاص من الفكر النمطي.

- لابد أن تتصدى المنظمات الثقافية الى دورها الأساس في هذا الفضاء.

- الإعلام بوسائله وأنواعه حتى المغمورة منها، عليه البدء بحملات لنقض الفكر النمطي، وتشجيع العقول على الولوج في العوالم الفكرية الجديدة.

- لا يصح استنساخ الأفكار التي لا تنبع من الثقافة الأصيلة والقيم الأم.

- لا يمكن الاستفادة من الطرائق التقليدية المستهلَكة، فالتفكير النوعي الحديث، لا ينتجه السائد أو المستهلَك.

- إعطاء جرعات مناسبة لدعم الجرأة الفكرية لدى الأفراد ومن ثم المجتمع.

- منح أساسيات الفكر المتجدد فرصاً كبيرة تكفي لصنع التنوع الفكري المنسجم مع ما يستجد في هذه المضامير من تنوع وتطور مائز.

اضف تعليق