q

طور لفيف من الطلبة والدارسين في جامعة شيكاغو الامريكية اواخر القرن التاسع عشر، ابحاثا اجتماعية ادت الى ولادة تيار كبير في علم الاجتماع "المديني"، (علم الاجتماع الذي يهتم بالمدن)، في مدينة شيكاغو التي عدت في العام 1900 ثالث مدية في الولايات المتحدة الامريكية من حيث عدد السكان بعد ان اخذت تتسع على نحو كبير في نهاية القرن التاسع عشر بوصول موجات متتالية من المهاجرين الامريكيين والاجانب.

واهتم باحثو مدرسة شيكاغو والتي ستتحول تسميتها الى "مدرسة شيكاغو"، بموضوعات الهجرة والجريمة بشكل اساسي، وظهرت على اثر ذلك مفاهيم ومصطلحات اجتماعية جديدة منها موضوع "الغريب"، في عديد من دراسات مدرسة شيكاغو، والذي يقصد به "الشخص الذي يقيم في المجتمع لكنه يظل بالهامش". فلا يدرك الياته الحميمية ويبقى على نحو ما خارج الجماعة، مما يمنحه، على الرغم منه، قدرا اكبر من الموضوعية، "لا تنطوي على التجرد او اللامبالات بل تنجم بالاحرى عن التدبير الخاص بين القرب والبعد وبين الاهتمام واللامبالات". بحسب ما يلخص كتاب "آلان كولون" في كتابه "مدرسة شيكاغو"، والذي ترجمه مروان بطش.

ويقول سيميل، احد علماء مدرسة شيكاغو، انه في المدينة العصرية الكبيرة يغدو كل فرد غريبا داخل مجتمعه الخاص، "شريدا بالقوة"، ورجلا بلا جذور. وان التماس بين مختلف الثقافات ينتج على الدوام خللا في المؤسسات الاجتماعية، وبخاصة المؤسسات ذات الثقافة "الضعيفة"، اي ثقافة الجماعة الاقلية. من هذه الجماعة يطفو بعض الاشخاص "الهامشيون"، على السطح، تحدوهم الرغبة في ترك جماعتهم الاصلية والاندماج في جماعة الاغلبية.

ويتطرق "آلان كولون"، عن دور كل من سيميل وبارك في توسيع مفهوم الرجل الهامشي، والذي استخدمه بارك لاول مرة عام 1928، في مقالة تشرح بشكل اكثر وضوحا الية الصراع بين الثقافات. حين تتجابه ثقافتان تظهر شخصية من نوع جديد، تتجلى صورتها في شخص اليهودي المتحرر. (ص74).

ويستطرد "كولون"، معلقا على اسهامات علماء مدرسة شيكاغو في توضيح مفهوم الشخص الهامشي، وبالتحديد نموذج اليهودي المتحرر وهو الرجل المتحرر النموذجي، المتغرب الاول والمواطن العالمي الاول. انه "الغريب"، بامتياز.

بيد ان الرجل الهامشي هو ذاك الذي يعطي دفعا للحضارة الى الامام، فهو "دائما كائن بشري اكثر حضارة من الاخرين. انه يحتل المكانة التي كانت دوما ليهودي الشتات عبر التاريخ"، كما يقول "كولون".

وفي ادبيات مدرسة شيكاغو فان الرجل الهامشي هو نموذجيا مهاجر من الجيل الثاني، عانى وبشكل مباشر من تبعات الخلل العائلي الاجتماعي والجنوح والجريمة والطلاق..الخ. انه ليس ذاك الانسان المنبثق من عرق مختلف فحسب، بل هو ايضا ذلك الرجل الذي ينتمي الى ثقافة مختلفة والذي يقف عادة في منتصف الطريق بين الثقافة القبلية والبدائية، وثقافة الحياة العصرية المدنية التي تفوقها حداثة وتعقيدا. وفي كل الاحوال يكون الرجل الهامشي مهاجرا، سواء كان اوربيا ام زنجيا ام من الجنوب (الامريكي) قدم الى المدينة عن العمل، او فلاحا امريكيا عانى هو ايضا من تبعات النزوح من الريف.

ينفصل الرجل الهامشي عن ثقافته الاصلية ويبني لنفسه هوية جديدة عن طريق المثاقفة، وقد طور علماء مدرسة شيكاغو في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي الشخصية الهامشية، يرون انها تظهر حين، "يجد فرد نفسه مطلعا على نحو لا ارادي على عدة تقاليد تاريخية ولغوية وسياسية ودينية، او على عدة رموز اخلاقية"، ولهذه الاسباب يكون الرجل الهامشي في صراع بسيكلوجي مع عدة عوالم اجتماعية تتفاوت حدته تبعا للمواقف الفردية, انه الشخص الذي يبني عالما جديدا انطلاقا من تجاربه الثقافية المتنوعة، يشعر في كثير من الاحيان وبحق انه مرفوض، لانه لم يتكيف الا جزئيا. فيقوم في اغلب الوقت بتوجيه انتقادات لاذعة للثقافة السائدة التي رفضته برغم جهوده التي يبذلها للتكيف، ويستنكر ما تنطوي عليه من نفاق وتناقضات.

كتاب "آلان كولون"، المميز، ينقل في صفحاته (72-79)، عن اسهامات مدرسة شيكاغو ويؤكد انها في مجملها طورت مفهوما متفائلا عن الهجرة بشكل الرجل الهامشي الذي اضحى رجلا هجينا ثقافيا، يتقاسم على نحو حميمي ثقافتين متمايزتين، ومقبولا بشكل كامل في كل منهما ومهمشا من كلتيهما.

والتهجين هو في نظر الباحثين اغتناء، الا ان الرجل الهامشي في نظر بعض علماء مدرسة شيكاغو، هو وان كان رجلا خلاقا يبتدع اشكالا جديدة من المخالطة الاجتماعية وسمات ثقافية جديدة، الا انه ذلك الرجل الذي يواجه هذا الموقف الثنائي بشكل مؤلم، مع ما يرافق ذلك بوضوح من مظاهر نفسية تكشف عنه وتشير اليه في آن واحد كمنحرف اجتماعي.

اضف تعليق