q

برغم تداعيات الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، والذي نزع لثام الوسيط المحايد عن وجه الإدارة الأمريكية؛ ليظهر وجهها الحقيقي كطرف أساسي في الصراع؛ داعم وبقوة للطرف الإسرائيلي، إلا أن الواقع العملي على الأرض لا يعكس على ما يبدو الواقع النظري المنطقي، فالإدارة الأمريكية لا زالت؛ وربما ستبقى لأمد ليس بالقصير محتكرة لأي مسيرة تسوية في هذا الصراع نظراً لعوامل عدة، وأهمها أن الدور الاحتكاري الأمريكي لمسيرة التسوية ليس دوراً اختياري لطرفي الصراع؛ بقدر ما هو دور جبري مفروض طبقا لموازين معادلة النفوذ الدولي، وطبقاً لخارطة الجغرافيا السياسية الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط.

وطبقاً لمعادلة النفوذ والمصالح الدولية؛ يقع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في منطقة حيوية للولايات المتحدة الأمريكية، والتي تحتكر فيها مصادر الطاقة، وتسيطر فيها عسكريا وسياسيا على القرار السياسي بطريقة أو بأخرى، لجل دول الإقليم، وهو ما يعني ببساطة أن أي تدخل دولي في قضايا تلك المنطقة خاضع سلفا لتلك المعادلة الدولية وللفيتو الأمريكي، وعليه فإن أي تدخل دولي لن يتعدى في أحسن الأحوال المواقف السياسية الشكلية وغير الملزمة والمفرغة من أي ضغوط سياسية، وطبقاً لمعادلة الجغرافيا السياسية الإقليمية المضطربة لمنطقة الشرق الأوسط، والتي تمر بحالة بلازما، والمقصود هنا بلازما المادة بمفهوم الفيزياء النووية، وهي حالة تمر بها ذرات العناصر قبل أن تتشكل وتستقر.

فإن المعادلة الإقليمية تبدو ظاهرياً في صالح إسرائيل، وذلك لأن الولايات المتحدة استطاعت وعبر عقود من الزمن تحييد الصراع العربي الإسرائيلي من معادلة العلاقات العربية والإقليمية معها، وهي اليوم راغبة وبشدة في تطبيق نفس التحييد بالعلاقات العربية الإسرائيلية، والتي من الواضح أنها قطعت في الخفاء شوط لا بأس به في هذا المضمار، وهو ما منح الإدارة الأمريكية الجرأة على إعلانها الأخير بشأن القدس، وهو ما يفسر كذلك ردة الفعل العربية الخجولة على هذه الخطوة الخطيرة، والتي كان من شأنها أن تحدث زلزالاً سياسيا في الإقليم تجاه المصالح والنفوذ الأمريكي في المنطقة، وهو ما يؤكد أن ذاك الشوط المقطوع في العلاقات بين الأنظمة العربية وإسرائيل أطول بكثير مما هو معلن أو حتى مسرب، فلم تكن إسرائيل طوال الوقت إلا لاعب أساسي في تشكيل الجغرافية السياسية للإقليم.

ومن الواضح أن الدور الإسرائيلي شهد انعطافة حادة في الأهمية بعد أحداث الربيع العربي، الذي تحول إلى خريف عاصف عصف بدول وأنظمة حكم عديدة، وكذلك بآمال شعوب المنطقة في الحرية والعدالة والكرامة، لكن الأخطر هنا أن هذه الانتكاسة العربية لربيعها التاريخي، وما أحدثته من هزة في الجغرافيا السياسية للمنطقة أدت إلى إنهاء أي تأثير عربي في التضاريس السياسية للإقليم نظراً لحالة الهشاشة التي أحدثتها أحداث الربيع العربي وتبعاته للنظام العربي الرسمي في كل الدول العربية على حد سواء؛ التي شهدت والتي لم تشهد هبوب رياحه.

علاوة على تداعي منظومة التعاون العربي المتهالكة في الأساس، وهو ما أدى بتلك الأنظمة إلى الانكفاء على شأنها الداخلي في محاولة لتثبيت دعائم حكمها وقبضتها على السلطة بأي ثمن، وهو ما وفر الفرصة لإسرائيل والولايات المتحدة لمقايضة تاريخية للعرب بما يعرف بصفقة القرن، ومن الواضح أن القدس كانت أول بنود تلك المقايضات بإخراجها من قضايا الحل النهائي، أما قضية اللاجئين فقد تطوع العرب سلفا بإسقاطها عبر المبادرة العربية التي اسقطت حق العودة.

واليوم تتمم الإدارة الأمريكية المهمة بتصفية وكالة الغوث عبر إفلاسها عن طريق قطع الدعم المالي عنها، وهو ما سيؤدي في أحسن الأحوال إلى دمجها في المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، إن لم يكن حلها نهائيا، أما باقي قضايا الحل النهائي فقد تكفلت إسرائيل بفرض واقعها على الأرض فيها، وبجولة استكشافية في الضفة والقطاع يمكنك مشاهدة كيف حسمت قضايا الحدود والأمن والمياه، واستنتاج معنى السيادة الفلسطينية الفعلية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

إن صفقة القرن لم تتوقف، وهي كما قلنا في السابق تأخذ شكل فرض الواقع على الأرض وتطبيعه، ومن الواضح أننا سنشهد خطوات أمريكية وإسرائيلية مشابهة؛ لتلك التي حدثت في قضية القدس، وذلك مستقبلا في ما تبقى من قضايا الحل النهائي، ومن المرجح أن تتخلل تلك الخطوات حوافز ذات طابع اقتصادي للفلسطينيين ضمن سياسة العصا والجزرة، فبعد صفعة القدس لابد من جزرة ما للفلسطينيين تنسيهم الصفعة وتُهدأ من غضبهم، وتُهيأهم للصفعة القادمة.

في ظل هذا الواقع ليس أمام الفلسطينيين من خيار إلا الاعتماد على أنفسهم، وهدم معبد مسيرة التسوية الأمريكية، والذي شيدته إسرائيل والولايات المتحدة، وأصبح فيه الفلسطينيين في نهاية المطاف بلاط لأرضيته، وهذا يتطلب إنهاء الوضع السياسي القائم، وإعادة الصراع لنقطة الصفر، كصراع وجود لشعبين على أرض واحدة، فليس مهم أن نخسر أي شيء بعد القدس، فأي شيء سنربحه بعدها لا قيمة له، وعلينا إعادة ترتيب البيت الفلسطيني بطريقة مغايرة لما سبق، يكون مضمونها تثبيت الشعب الفلسطيني على أرضه وإشراكه عمليا وبشكل مباشر في اتخاذ القرار السياسي؛ وذلك عبر نظام سياسي يُفعل سيادة الشعب على أرضه، وليس سيادة السلطة على الشعب، لأن هذا المفهوم هو الفيروس الذي زرعته إسرائيل في اتفاق أوسلو وأودى بوحدتنا الوطنية، وأدى في نهاية المطاف لمرض اسمه الانقسام الفلسطيني.

إن سيادة الشعب على أرضه هي السيادة التي لا تنتهك، وهي السيادة الحقيقية للدولة على أرضها في محيطها، وأمام العالم، وعلينا أن نسقط مفهوم السيادة على الشعب لصالح مفهوم سيادة الشعب على الأرض؛ في نظام سياسي يكون فيه المواطن الفلسطيني بمثابة القلب النابض وصاحب القرار الأول والأخير، لأن الشعب هو من يدفع الفاتورة كاملة.

لا خيار لنا إلا بهذا النظام فهو القادر على إدارة الصراع لعقود قادمة، ومقارعة أمريكيا وإسرائيل، فالشعوب لا تخضع للضغوط، ولا تُهزم ولا تنكسر، بل تناضل وتصبر وفي النهاية هي من تنتصر.

* أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية
[email protected]

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق