q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

هل تستغني التربية والتعليم عن القرآن الكريم؟

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي – طاب ثراه-

يتساءل الكثير في العراق وفي عديد البلاد الاسلامية، عن سبب تحول المدرسة الى مكان يتخوف منه أولياء الأمور على أخلاق وسلوكيات ابنائهم، ففي بعض المدارس – ولا نقول جميعها- نلاحظ أن التلميذ يتعلم الكلمات النابية والتصرفات الغريبة قبل ان يتعلم القراءة والكتابة والرياضيات والعلوم؟

ثم يتساءل آخرون – ونحن منهم طبعاً- عن كيفية تسرّب هذه الثقافة الى مدارسنا بعد ان كانت مصونة منها في سالف الزمان؟

هنالك اسباب عدّة تكمن وراء هذه الظاهرة الغريبة والانحراف الكبير في مسار التربية والتعليم، بيد ان ابرزها ما يشير اليه سماحة الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- في هذا المقطع الصوتي، منبهاً الى خطورة تخلّي المدارس عن تعليم القرآن الكريم ضمن مناهجها، والتعليم المقصود، ليس حفظ الآيات ومعانيها، كما هو حال حفظ النصوص الأدبية والمعادلات الرياضية في الدروس الاخرى، وإنما إعطاء أهمية خاصة للقرآن الكريم، كونه يحمل منهجاً تربوياً متكاملاً بحد ذاته. لنقرأ ما يقوله سماحة الامام الشيرازي:

"القرآن؛ كتاب سماوي أنزل لهداية البشر، وتكليفنا اليوم، وتحديداً الى الشباب، أولاً: قراءة القرآن، وأن تحسن القراءة، بينما تعيش الامة، وعديد البلاد الاسلامية، أزمة قراءة القرآن لاسيما بين اوساط الشباب، وقد لاحظت في العراق، قبل الكويت، أن من بين مئة شاب، لا يوجد عشرة شباب يحسنون قراءة القرآن الكريم.

اسباب هذه المشكلة يكمن في النظام التربوي، فقد وعى آباؤنا الى أهمية القرآن الكريم في المنهج التعليمي بالمدارس من الايام الاولى، وكانت المدارس في عهدنا تستقبل الاولاد الصغار في أول يوم من الدوام بالمدرسة التي كانت تسمى آنذاك "الكتاتيب"، بالقرآن الكريم، وكان الآيات الكريمة ترافق تعليم الحروف الابجدية، من الألف الى الياء، وكانت قراءة القرآن الكريم ترافق قراءة الحروف وكتابتها، من سورة الفاتحة ثم سورة البقرة، ثم "جزء عمّ".

كانت البلاد الاسلامية، ومنها؛ العراق والكويت، تكرّم قراء القرآن الكريم وايضاً حفظته، ومنها؛ إقامة مسيرة أو أشبه "بالزفّة" للإحتفاء بحافظ القرآن الكريم، فكان يلبس أجمل الملابس، ويحاط بمجموعة من اصدقاءه في المدرسة، ومعهم الآباء، ثم يرشون ماء الورد على الناس يتقدمهم من يحمل "المجمر" الذي تفوح منه رائحة المسك والعنبر، وفيهم من يقرأ القرآن الكريم بصوت جميل، ويطوفون الشوارع والطرقات.

أما اليوم؛ ففي كثير من بلادنا الاسلامية، يتخرج الطالب طبيباً من الجامعة وهو لم يفتح الكتاب المجيد مرة واحدة في المدارس التي تعلّم منها، هذا المآل يمثل تحقيقاً لآمال الاستعمار البريطاني بفصل الامة عن كتابها السماوي.

ذلك السياسي البريطاني الذي تحدث الى اصحابه قبل عهد الاستعمار، بأن اذا اردتم السيطرة بنجاح على المسلمين، عليكم ان تبعدوهم عن هذا الكتاب (القرآن الكريم)، لأن في هذا الكتاب مبعث الاقتصاد، ومبعث السياسة، ومبعث العائلة، بل ومبعث تماسك المسلمين.

ولذا علينا ان نهتم بتعليم وتعلّم القرآن الكريم كخطوة أولى على طريق نشر ثقافة القرآن في اوساط الأمة".

التربية أم التزكية؟

لم يكن اعتباطاً من العلماء والمعنيين في بلادنا، جعل التربية الى جانب التعليم، وتسمية الوزارة المعنية بهذا الشأن بـ "وزارة التربية والتعليم"، بعد ان كانت تسمى "المعارف" في عديد البلاد الاسلامية ومنها؛ العراق، والغاية الواضحة؛ أن تكون المدرسة ذات مدخلية في صياغة شخصية الطفل أخلاقياً وروحياً حتى يكون وعاءً صالحاً لتلقي العلوم والمعارف، ومن ثم يتمكن من توظيفها لخدمة مجتمعه وأمته.

بيد أن هذه الأمنية الكبيرة والرائعة اصطدمت بمشكلتين من جملة مشاكل نذكرهما على سبيل الإشارة:

الاولى؛ وتتعلق بالانظمة السياسية الحاكمة وما تحمله من توجهات وافكار تريد هي تمريرها في الواقع، كما هو حال بعض الانظمة المتجهة يساراً نحو الماركسية، وما يستدعي ذلك التخلّي عن عامل الدين في تحريك عجلة الحياة بشكل سليم، ورسم خارطة طريق للانسان، أو تلك الانظمة المتجهة يميناً نحو الليبرالية والعلمانية، التي تدعو الى إطلاق الحريات ونفي القيم الاخلاقية والدينية ودورها في اكتشاف الحلول لمشكلات الناس، وهذا جعل "التربية" كلمة تكتب على واجهات المدارس وحسب، دون أي محتوى ومصداقية، وإن كانت هنالك ذكريات عالقة في أذهان البعض من الاجواء التربوية أيام زمان في العراق تحديداً، فهي تعود الى مبادرات فردية من معلمين مارسوا التربية وأولوها أهمية على التعليم انطلاقاً من متبنيات دينية واضحة لديهم، كما حصل مع معلم القراءة في مدرسة الحسين، بكربلاء المقدسة، في سبعينات القرن الماضي، وهو المرحوم "استاذ نزار"، عندما كان يدعونا الى قراءة سورة الفاتحة قبل الانصراف الى البيوت في آخر حصة بالمدرسة، وغيرها من التوجيهات والنصائح ذات الطابع الاخلاقي والديني.

أما الثانية؛ تتعلق بالمنهج، فالتربية بحاجة الى بوصلة وبرنامج عملي صحيح لتعطي ثمارها، لذا نجد القرآن الكريم يشير الى التزكية وليس التربية لتكون سابقة على التعليم، وبين في آيات عدّة العلاقة المنطقية بين التزكية والتعليم، ويقول العلماء "أن كلمة التزكية مشتقة من الزكاة، وهي الطهارة والنقاء، و اساس التزكية تقوية الارادة البشرية، وتحكيم حسّ التحرر من الأهواء والشهوات وتحكيمه في سلوكه، بينما التعليم يهدف إضافة المعارف الجديدة الى الانسان لدفع عجلة البشر الى الامام، وهو يعتمد على طاقة العقل الكامنة فيه"، بمعنى أن العلم بحاجة الى برنامج اخلاقي يقوّم النفس الانسانية وتجعلها مؤهلة للاستفادة من العلوم والمعارف، حتى لايكون التوظيف للدمار والخراب، كما حصل في الحروب الكارثية، وما تزال، حيث تلعب التكنولوجيا دوراً محورياً في تطوير الصواريخ والطائرات والسفن الحربية، فضلاً عن اسلحة الدمار الشامل التي تقضّ مضاجع البشرية.

ليس هذا وحسب، بل ان القرآن الكريم يبرع في اسلوب تربوي لتزكية وتنقية النفس الانسانية بصورة علمية رائعة، وهذا ما كشف عنه سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي في كتابه "بحوث في القرآن الكريم"، من أن القرآن الكريم يتبع "اسلوباً مرحلياً يتابع مراحل التزكية، بما يتناسب معها من الإثارة العاطفية والتوجيه الفكري والزخم الايماني، إنه اسلوب يربط – بحكمة بالغة- بين الفكرة الموظفة والهدف المنشود، وبكلمة؛ ان البشرية تسعى منذ قرون في سبيل وضع مناهج علمية للتربية والقرآن سبق البشرية جميعاً في استخدام كل هذه المناهج".

ويورد سماحة المرجع المدرسي مثالاً على ذلك في الآية التي تتناقلها الألسن، من سورة الرعد: {إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}، فاضافة الى أنها "حقيقة تربوية يتعرض اليها الكتاب المجيد لتثبيت المسؤولية الشخصية في نفوس الامة، بيد أن ثمة دلالة على القانون الاجتماعي الذي يربط بين الحضارة وبين تطوير الصفات النفسية، ويقول: كلما كان بناء قوم اكثر من هدمهم، كلما تقدمت الحضارة، ولا يكثر البناء على الهدم على صعيد الواقع إلا بعد وجود نفسية مناسبة على صعيد الذات".

هل العلاقة بين الطالب والقرآن على مايُرام؟!

القرآن الكريم، يندرج ضمن مادة "الإسلامية" في مدارسنا، وربما تحت مسميات أخرى في سائر البلاد الاسلامية، ويعرفه الطلاب والطالبات على أنه للحفظ وحسب، وفي حالات عدّة نلاحظ التبرّم من هذه المادة للقصور في التدريس والاسلوب الفاشل في نقل المادة الى الطالب، الى درجة ان يكون مصدر ازعاج وهاجس مخيف للطلبة من أن يكون سبباً في تدني المعدّل او السعي السنوي، وبكلمة؛ فان القرآن الكريم هذا الكتاب السماوي المقدس الغني عن التعريف، والذي عرفه المستشرقون والفلاسفة والمفكرون في العالم قبل قرون قبل ان يعرفه المسلمون، يهمّش الى زاوية بعيدة من المنهج التعليمي في مدارسنا، فضلا ً عن ان يكون ذو تأثير على هذا المنهج كما يطمح علماؤنا وفي طليعتهم سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي، فهو يشير الى معرفة الاستعمار البريطاني اهمية القرآن ودوره الحضاري في نهضة الامة، ولذا فهو يوصي بتغييبه من مناهج التعليم في بلادنا، وهو ما حصل وتم تنفيذه حرفياً، فالقرآن موجوداً شكلاً وظاهراً ، ولكنه مفقود مضموناً وجوهراً.

فماذا نتوقع من طبيب – كما يذكره سماحته كمثال- يطوي مراحل دراسته الطويلة، وهو لا يحسن قراءة القرآن ولا يستوعب معانيه ومضامينه؟ وهل يجب ان نفاجئ بما نراه من سلوكيات غريبة ولا انسانية من بعض الاطباء إزاء المرضى؟

وهذا الامر ينسحب على سائر الاختصاصات التي تزودنا بها الجامعات والمعاهد، مثل المحاماة والهندسة والادارة والتربية وغيرها، مما يدعو المعنيين في المؤسسة التعليمية ومن المراحل الاولى، بإعادة النظر في اسلوب التعليم البعيد عن قيم القرآن ذات الصلة بالفطرة الانسانية والمطابقة للعقل والمنطق، وإعطاء أهمية خاصة لهذا الكتاب العظيم في المدارس، ليس كمادة دراسية تقليدية مثل سائر المواد الموجودة، وإنما يكون بمنزلة البوصلة التي تعين الطالب على صياغة شخصيته وفق موازين صحيحة، وهذا ممكن جداً بتجربة "التدبّر" ضمن درس الاسلامية، على أمل يكون مادة مستقلة في المستقبل، حتى يتسنّى للطالب والطالبة تلقي مختلف العلوم الموجودة في ضوء البصائر المستخرجة بواسطة التدبر في القرآن، بحيث تتحول المدارس والجامعات الى مراكز ينظر اليها الناس على انها المعين الاول في تحقيق التطور و ايجاد الحلول لمختلف المشاكل والازمات التي يعيشونها.

اضف تعليق