q

كل مسيرة في الحياة؛ لابد أن تواجه المطبات والمعرقلات، لكن ذلك لا يعني الاستسلام والخضوع لمنطق اليأس والانكسار؛ لأن ذلك سيجعل مساحة العتمة مهيمنة على خريطة المسيرة الإنسانية حيث الإنسان يضخم الأخطاء لدرجة استحالة التصحيح، ويعمل على تحقير ذاته وإذلالها ممارساً أقصى حالات جلد الذات.

ويقسم علم النفس قضية جلد الذات Self-abasement إلى جلد ذات مادي ومعنوي، والنوع المعنوي هو الذي نقصده في قضية اليأس من المستقبل وعدم جدوى الحياة وغيرها من الهواجس السلبية التي يصاب بها الإنسان نتيجة حدث معين يولد إحباطاً وانكساراً. وقد يصل الإنسان إلى درجة الاستئناس والتمتع بالحديث عن يأسه وانكساراته، وكأن الاحباط يشاركه زاده وبقية الفعاليات التي يمارسها في الحياة، بحيث يشعر بفقدان كبير إذا غاب عنه الاحباط.

قد يحاجج شخص ويذهب إلى أن جلد الذات والمادي منه على وجه الخصوص يتمثل في بعض الطقوس التي يمارسها أتباع الأديان المختلفة ليقول لنا لماذا تسكتون عن النوع المادي وتخوضون في النوع المعنوي؟ والجواب على هذا السؤال المفترض في منتهى البساطة، إذ إن الممارسات الطقوسية الدينية في حال سلمنا أنها تنتمي لـ (جلد الذات) فإنها محصورة بأشخاص معينين ولا تعميم فيها، فضلاً عن أن تتابع المراحل الزمنية لهذه الطقوس أثبت أنها كانت عاملاً في التطلع إلى الأمام وبناء المستقبل، الأمر الذي ينفي حالة جلد الذات عن الطقس الديني، ويؤكد أنها طقوس للمواصلة وبناء الذات على القيم الأخلاقية، وتعمل على ترميم الانكسارات لا زيادتها كما يتوهم في ذلك كثيرون.

إنتاج الأفكار

ومن المهم دراسة التأثيرات التي تحدثها عملية جلد الذات على قضية انتاج الأفكار، ولا يخفى أن أكثر التصدعات التي تواجهها البشرية بتمظهرات سياسية واقتصادية واجتماعية؛ ماهي إلا قناع لصراع أفكار، وكل فكرة تحاول أن تثبتَ فاعليتها وتفوقها على الفكرة المنافسة.

ولما كان صراع الأفكار محتدماً، فمن الطبيعي أن تكون النخب الفكرية هي المغذي الرئيس الذي من شأنه إدامة زخم الصراع الذي سيمتد إلى ما شاء الله من زمن. وقد تباين مستوى التأثير النخبوي على المجتمع بحسب الظروف المرحلية التي تفرض واقعها الذي ينعكس حتماً على المزاج الفكري العام، والذي قد يتعرض لهزات وانكسارات تحدث تشظياً وانقساماً في صفوف المفكرين، بحيث يعيشون في عزلة انهزامية تلقي بظلالها على الواقع المجتمعي وشرائحه الأخرى.

الأخطر في موضوعة الفكر الانهزامي، وانهزام النخب الفكرية والثقافية؛ يكمن في أن هذا الانقسام سيولد حالة من التعددية السلبية المرتكزة على تابعية إيديولوجية، حيث الانقياد الأعمى والتبعية المحضة لعناصر الأدلجة. هذه التبعية ستكون النتيجة المنطقية لاستفحال ظاهرة تضخيم الأخطاء، والتأقلم على الضجر وعدم الإيمان بالاستمرارية، وتنامي المشاعر السلبية التي تستبطن التغلب على الفشل، لكنها تظهر ذلك عبر الهروب منه لا بمواجهته.

ومن المناسب الاستشهاد بتعدد الأنماط الفكرية التي ظهرت كرد فعل مأزوم وانهزامي بعد نكسة حزيران 1967 التي ألقت ظلالاً من التشاؤم الكثيف، وأنتجت المزيد من الاحباط والانكسار. فقد ظهر بعد النكسة بفترة قليلة نمط يسمى بـ (التراجيديين)، وقد غلب النقد الراديكالي على سلوك هذا النمط الفكري لدرجة المطالبة بنسف التراث كاملاً، مع الإيمان باليأس من أي مستقبل، وعدم وجود أي أمل بالإصلاح، ويُعد هذا النمط الفكري أشد أنواع الأنماط انهزامية.

وفي مطلع الثمانينات من القرن العشرين الماضي ظهر نمط آخر تحت مسمى (المثقف البديل أو البدائلي) وهذا النمط طالب بإعادة تقييم النظريات النقدية السابقة التي لخصت المشكلات المجتمعية ، ورأت بإمكانية تقديم الحلول، لكن النجاح لم يحالف هذا النمط؛ لأن آثار الانكسار والهزيمة كانت لازالت مسيطرة على الذهنية لدرجة استحالة إيقاد شمعة في مساحة العتمة الفكرية الكبيرة.

وثمة نمط ثالث، وهو نمط (المقاولين الثقافيين)، وأصحاب هذا النمط يحترفون التنظيرات الجاهزة، والمفصلة على المقاسات السلطوية والحزبية مقابل بعض الصفقات والامتيازات التي يسيل لها اللعاب الفكري، حيث لا وقت للتفكير بالمبادىء والقيم والأخلاق.

وبمقارنة بسيطة بين هذه الأنماط الثلاثة؛ نجد أن النمط الثالث هو المتفوق وهو الحاضر الفاعل، حيث صار للفكر سوق يُروج ثقافياً لمشاريع السلطة والأحزاب، ولم يقتصر السوق الفكري على المشاريع المحلية، بل تعدى ذلك بانفتاحه على مشاريع السلطات في عدة بلدان كما حدث مثلاً مع المفكرين الذين روجوا للحرب العراقية الإيرانية، حيث كتب المفكرون وأسهبوا في تمجيد المشروع القومي الضيق لهذه الحرب التي أبادت الآلاف من البلدين. بينما نراهم صمتوا تجاه قضية هي في صلب القومية التي آمنوا بها كصمتهم في قضية الاجتياح العراقي للكويت عام 1990.

ونفس الحال ينطبق على مفكري الألفية الجديدة، أو مفكري مرحلة ما بعد الربيع العربي الذين تماهوا قومياً ومذهبياً مع مشروع الحرب على اليمن. ولا شك أن مثل هذه المواقف التي تعتبر مواقف للمساومة، وأمام تراجع النمط الفكري الواقعي، وتخبط النمط التراجيدي الذي صار صدى لأفكار بعيدة عن واقعه؛ فإن أكثرية الشرائح المجتمعية ستكون هي الأخرى صدى للنخب التي اشترتها السلطات، فتتحقق بذلك حالة الاستلاب الحضاري، وانعدام الطاقة الايجابية، وفقدان الثقة بالنفس وعقدة النقص والانهزامية تجاه الثقافات الأخرى، لدرجة التابعية المقيتة.

نقد الذات لا جلدها

إذا لم نفشل لا يمكن أن نحقق نجاحاً، وإذا لم نتعثر ليس لنا أن نواصل، وهذه قاعدة حياتية، لذلك بدلاً من ممارسة التحقير على ذواتنا، وبدلاً من الهروب غير المجدي، لا بد من مواجهة ومصارحة تبحث في أسباب الهزائم والانكسارات، بشرط أن لاتكون المصارحة مصارحة جلد ذات وإلا فإننا لم نفعل شيئاً. المصارحة والمواجهة المقصودة هي في عملية نقد التجربة، ودراسة مسببات فشلها، والعمل على تلافيها، والتركيز على النقاط التي تعزز من قوة التجربة.

الحل إذن يكمن في نقد الذات لا بجلدها، وهذا النقد كفيل بقطع الطرق المؤدية إلى النفس الانهزامية، وسيمد أغصان التشبث بالأمل والمواصلة في شجرة تستمد قوتها من جذر النقد الذاتي الفاعل والبناء، وليس النقد الهادم والمهزوم والمنكسر. لابد من تغذية الاحساس الداخلي بضرورة ممارسة العملية النقدية الهادئة. قد يتطلب الأمر وقتاً طويلاً خصوصاً في مجتمعاتنا الشرقية التي تعودت على الانفعال والتسرع، لكن طول الوقت لا يعني الاستسلام للتحديات.

نقد الذات: هو الوجه الأوضح لعملية قياس التجارب الفاشلة بمواجهتها وليس بالهروب منها وتهميش المحاولات الساعية لترميمها والانطلاق بها إلى الأمام، فتكون أفكارنا التي سننتجها أفكاراً ناضجة وهادئة وغير انفعالية.

اضف تعليق