q

أينما توجهنا في العالم المتقدم علمياً واقتصادياً وحتى ثقافياً، نجد النجاح ولد من رحم الإيمان بما يحمله ذلك الشعب من افكار وقضايا وتطلعات، وليس بالضرورة ان يكون الإيمان من سمات الدين – دائماً- او انها تجسيد للعقيدة، بل ربما تكون لدى بعض الشعوب والأمم مرادفة للقناعة والتبني، ثم التفاني من اجل ذلك والمضي قدماً في الطريق حتى تحقيق الهدف النهائي؛ فالشعوب الناهضة مثل؛ الشعب الهندي، والشعب الكوري الجنوبي والشعب الصيني، وأشباههم، إنما بلغوا مراقي التقدم العلمي والاقتصادي، بإيمانهم العميق بقدرتهم على التفوق والنجاح، والتحول من الفقر والتبعية، الى الغنى والاستغناء ثم الحضور المؤثر في الاسواق العالمية، كما آمنت من قبل بحقها في الاستقلال من القوى الاستعمارية وتقرير مصيرها بنفسها.

والشعوب الاسلامية ومنها الشعب العراقي، لديها الكثير من الفرص والقدرات للتقدم، بيد انها لا تنظر الى هذا بعين كبيرة، بل العكس؛ وحتى بعين الريبة والقلق بشكل غريب، وهي التي تحتفظ في تاريخها انجازات علمية وحضارية باهرة، فانعدمت الثقة بالعلم والمعرفة والثقافة في قدراتها على انتشال الناس من معاناتهم وازماتهم، وذهب البعض للاعتماد على قوى أخرى، مثل المال والسياسة والسلاح لحل مشاكلهم، بل وتحقيق التفوق على الآخرين.

وهذا لم يكن إلا بعد تراجع الإيمان بالقوة الحقيقية الكبرى، وبمصدر العطاء والرحمة اللامتناهية، يكفي أن يتفكّر الانسان بخلق السموات والارض، ويتعرف على سنن الله –تعالى- وقوانينه في الحياة، ومنها؛ الحكمة، حينها سيعرف حجمه وقدراته، ويستشعر الخشية من الانحراف عن هذه السنن والنُظم التي وضعها الله –تعالى- لإسعاد البشرية، وفي كتابه "الصياغة الجديدة"، يشير سماحة الامام السيد محمد الشيرازي الى هذه الحقيقة بأن "اذا اردنا الحياة السعيدة في الدنيا قبل الآخرة، احتجنا الى الايمان بالله واليوم الآخر، إذ بدونها وبدون التقوى وبدون الخوف من الجنة والنار، لا يمكن صياغة المجتمع صياغة آمنة من الاخطار والمشاكل".

كيف نكون مؤمنين؟

سؤال مثير ربما راود اذهان الكثير ممن يعيشون أزمة الايمان في المجتمع، فالجميع يدعي الإيمان بالله وبرسوله وبما أنزل اليه من كتاب مجيد، وبما تضمنته سيرة المعصومين، عليهم السلام، بيد أن القضية تحتاج قاعدة رصينة للانطلاق تتمثل في العزيمة و الارادة، حتى "يرفع الله بها المؤمن من ظلمات الجهل الى رحاب المعرفة، ومن جاذبية الهوى الى حب الله، ومن محورية الذات الى كعبة الحق، ومن فوضى الاهواء الى قيمومة العدل"، كما جاء في كتاب "التشريع الاسلامي" للمرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي، الذي خصص الجزء الرابع من هذه الموسوعة عن الإيمان.

هذه العزيمة والارادة وهما يمثلان جزءاً من الحالة النفسية الايجابية، هما المسؤولان عن تحقيق التحول في حياة الانسان، وهما ايضاً يمثلان "روح الايمان" في دراسة المرجع المدرسي لمسألة الايمان بالله –تعالى- فهي تجسيد للايمان، فإن وجدت وجد، وهي معرضة للتهديد من سلوك وافعال غير سوّية، لذا ينبغي على صاحبها الاحتفاظ بقوة، مستفيداً من من الحديث المروي عن أمير المؤمنين، عليه السلام، بأن الايمان قائم على أربعة دعائم؛ الصبر واليقين والعدل والجهاد، "أما الصبر - يقول المرجع المدرسي- فهو الغاء حاجز الزمان لمشاهدة الحقائق، فالشوق الى الجنة والاشفاق من النار، يلغيان الشهوات العاجلة، أما شعب اليقين فهي؛ الانفتاح على الحقائق بلا تردد او ريب او جدل، فاذا رأى الانسان الحكمة قائمة في حقائق مشهودة على الارض، استبصر المواعظ وطبقها على نفسه، أما العدل والجهاد، فهما من أقرب آثار الايمان في النفس، فالعدل قائم على غور العلم الذي يعي به الانسان ماورئيات القضايا، وزهرة الحِكِم التي يستنبط بها الانسان أحسن الاحكام، أما الجهاد؛ فهو التصدي للكفر برفضه، وإعلان الحرب ضد كل منحرف، باللسان واليد والسلاح".

مكافحة جذور اليأس

كما أن لكل بناء هدم، فان بناء وصناعة الامل في النفوس بحاجة الى مكافحة اليأس من جذوره وإبعاده من ثقافة المجتمع، وقد رصد العلماء خطوات عدّة في هذا الطريق نذكر منها اثنين:

الاول: الاعتماد على المال والسلاح والسياسة.

وهذا هو الشائع في الوقت الحاضر، بدعوى أنها الحقائق الملموسة على الارض، وأن تغير وتقرر مصائر الناس، بيد ان التجارب تثبت يومياً خطأ هذا المنهج، وانزلاق اصحابه في المتاهات بعد "الافلاس السياسي" وايضاً "الافلاس المالي"، ثم تراجع قوة السلاح أمام قوة المنطق والحكمة ولغة الحوار التي نرى المزايدة عليها في العالم من قبل نفس القوى الكبرى التي وقفت بشدة خلف الحروب الدامية، فأين أمل الشعب السوري في التغيير من وراء كل هذه المعارك التي قادتها الفصائل المسلحة طيلة السنوات الماضية؟ إن أمله هذا تحوّل الى يأس مطبق من الحياة كلها، حتى بات البعض منهم يتمنى الموت على الحياة لما يعانيه من مآسي ومعاناة لا تُعد.

ثانياً: سوء الظن بالله –تعالى-.

وهذا لن يكون بشكل صريح، وإنما من خلال السلوك العملي، عندما يشعر البعض بأنهم باتوا في نهاية الطريق وامام الطريق المسدود بدعوى تراكم الازمات والمشاكل المعقدة، و ايضاً؛ مما يتوصل اليه البعض من استنتاجات سيئة عن تراكم الاخطاء وعمق الانحرافات التي يقع فيها البعض، فيقعوا في مستنقع اليأس والاحباط، ثم التراجع المستمر في مختلف شؤون الحياة.

وفي القرآن الكريم والاحاديث الشريفة تحذيرات شديدة من اليأس من "روح الله" ومن المغفرة والرحمة الإلهية، بل نجد الحثّ على الأمل في الرحمة الالهية التي تنتج انفراج الازمات والحلول.

جاء في الحديث الشريف: "والله ما أعطي مؤمن قط خير الدنيا و الاخرة، إلا بحسن ظنه بالله، عز وجل ، ورجائه منه ، وحسن خلقه ، والكف عن اغتياب المؤمنين ، و أيم الله لا يعذب الله مؤمنا بعد التوبة والاستغفار إلا ان يسوء الظن بالله ، وتقصيره من رجائه لله ، وسوء خلقه ، ومن اغتيابه للمؤمنين ، والله لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظنه به، لان الله، عز وجل، كريمٌ يستحي ان يخلف ظن عبده ورجائه، فأحسنوا الظن بالله وارغبوا اليه وقد قال الله، عز وجل: {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء}"، وقد وردت روايات عن المعصومين تدعو المذنبين والمخطئين، مهما أتوا من الذنوب، الى التوبة والإنابة بصدق وإخلاص، وعدم الركون الى اليأس والتمسك بالنظرة السوداوية في الحياة، فهذا الأمل الكبير بالرحمة الإلهية في الآخرة، ينعكس مباشرة على الحياة الدنيا ليخلق أملاً كبيراً ايضاً بحياة أفضل ملؤها التفاؤل والتطلع الى مزيد من العلم والمعرفة والتقدم في جميع مجالات الحياة.

اضف تعليق